التاريخ موضوع ربما لا نُقدّر معناه بشكل صحيح إلا في مرحلة نضجنا. نجد أولئك الذين نعتبرهم الأكثر حكمة في شيخوختهم، يستشهدون بأمثال غيبون وبوركهارت وثوكيديدس. ربما لا يصبح ثراء معنى التاريخ وإسهابه إلى ما لا نهاية في المتناول إلا في أواخر الدراسات الإنسانية، فلا يُنظر إلى التجريدات والأحداث في النهاية على أنها معارك وحروب وممالك وإمبراطوريات متنامية، وإنما كانتصارات الحياة، وهدرها، وحزن الأمهات، إذ يتسرب تعاطف الإنسان تدريجياً إلى سرد الأحداث. إذا كان هذا الإنجاز النهائي لمن هم الأكثر حكمة بين الناس، فما هي إمكانية أن يكون هذا الإنجاز في متناول الأطفال الصغار؟ حتى وإن هيمنت الأيديولوجيا، أية أيديولوجيا، على رؤيتنا للتاريخ -مثل أن يُنظر للأحداث الفردية والشخصيات في سياق حركات عظيمة، وتوالي القرون، وصعود طبقات أو إمبراطوريات وهبوطها- فإن التجريدات القوية التي تتم تصفية معنى التاريخ عبرها غير متاحة للأطفال الصغار أيضاً، وعليه فما الذي يمكن أن يعرفوه عن القوى الاقتصادية، والصراعات الجدلية، والإستراتيجيات العالمية؟
تُعطي النظريات التنموية، وأولئك الذين يستخلصون مضامينها في سياقات التعليم، دعماً قوياً لفكرة أن الأطفال الصغار لا يستطيعون فهم التاريخ. وقد شددت النظريات السائدة في التطور المعرفي في بدايات القرن الماضي على أن التجارب الفورية تسيطر على تفكير الأطفال خلال السنوات الأولى من حياتهم، وأن آفاقهم لا تتوسع إلا بشكل تدريجي. وأسس جون ديوي (John Dewey) على هذه الفكرة وبنى عليها، إذ جادل بأن المنهاج الدراسي ينبغي أن يصمم بشكل يقود الأطفال، بطريقة منظمة وتدريجية، إلى خارج الزمان والمكان المرتبط بتجاربهم المباشرة. واعتمد معلمو مادة الاجتماعيات هذا النموذج بشكل عالمي تقريباً على شكل منهاج "توسعة الآفاق"، وبحلول منتصف القرن الماضي، كان عمل جين بياجيه (Jean Piaget) قد قدم دعماً أكبر للاعتقاد أن الأطفال لا يمكنهم فهم التاريخ إلا في مرحلة متأخرة من مراحل تطورهم. ويقترح المربون البياجيون (نسبة إلى جين بياجيه) أن الطلاب لا "يطورون" بعض المفاهيم الأساسية لفهم التاريخ حتى سن المراهقة، وأن محاولات تدريس التاريخ للأطفال الصغار محكوم عليها بالفشل (هالام، 1969).
كان تأثير هذه الأفكار عظيماً بما يكفي لطمس التاريخ من المدرسة الابتدائية تقريباً، ومع ذلك فسأجادل هنا بأنه من الممكن، بل ومن المرغوب فيه، تدريس التاريخ للأطفال الصغار. في الواقع، سأجادل بأن فوائد تعليمية ستجنى وتتراكم في حال استبدال منهاج الدراسات الاجتماعية القائم بمنهاج لتدريس التاريخ.
لا تتواءم الصورة العامة المتمثلة بوجود فقر مفاهيمي لدى الأطفال الصغار، التي اقترحتها النظريات التنموية، بسهولة مع ملاحظاتنا العادية حول حيوية حياة الأطفال العقلية. إذا كان الأطفال لا يتمتعون بتواصل فكري إلا مع عناصر تجاربهم المباشرة، فكيف يمكننا تفسير انبهار الأطفال بشخصية دارث فيدر (دارث فيدر شخصية تمثل الجانب المظلم وترتدي الزي والقناع الأسود في مسلسل حرب النجوم، وهو نفسه الطفل أناكين سكاي ووكر الذي انضم للجانب المظلم) والساحرات والتنانين والدببة المتكلمين وغيرها من الشخصيات الرائعة التي تملأ قصصاً تدور أحداثها في أوقات وأماكن غريبة؟ إذا كان فهم الأطفال يتحقق من خلال التوسع التدريجي للمفاهيم التي تقدمها تجاربهم اليومية، فكيف يمكننا أن نفسر وصولهم المباشر إلى عوالم الخيال؟ إن منهاجاً مستنداً إلى الملاحظات النثرية لعلماء النفس حول تطوير الأطفال لأنواع معينة من المفاهيم منهاجٌ يتجاهل أبرز ملامح تفكير الأطفال الصغار وأكثرها حيوية. لا تزال نظرية بياجيه مؤثرة جداً في تخطيط المناهج الدراسية للأطفال الصغار حتى اليوم، ولكن من يجدون نظرية بياجيه مقنعة يتجاهلون حقيقة أنها تركز على نطاق ضيق فقط من المفاهيم المنطقية-الرياضية ضمن النطاق الواسع للتطور المعرفي الإنساني.[1] هذا ليس انتقاداً لبياجيه، ولكن لأولئك الذين يميلون إلى رؤية ذلك النطاق الضيق على أنه النطاق بكامله، أو حتى على أنه الجزء الأهم من التطوير المفاهيمي.
يمكن للطفل نفسه الذي لا يستطيع الحفاظ على المضمون بشكل مستمر، وفقا لاختبارٍ بياجيّ (نسبة إلى بياجيه)، أن يعيش بحماس في عالم عقلي للفرسان والتنانين والساحرات ومحاربي النجوم. إذا كان اهتمامنا منصباً على التعليم، فيتوجب علينا التركيز بحكمة أكثر على القدرات المفاهيمية التي يمتلكها الأطفال بوضوح، والنظر في الطرق التي يمكن بها استخدام هذه القدرات لتحقيق أهداف تعليمية.
إذا كان اهتمامنا منصباً على التاريخ، على سبيل المثال، فمن الممكن قبول الاستنتاج العام لعلماء النفس بأن الأطفال الصغار يفتقرون لمفهوم السببية التاريخية. مع ذلك، وفي الوقت نفسه، يمكننا أن نلاحظ أنهم يمتلكون بوضوح مفهوماً حول هذا النوع من العلاقة السببية التي تربط القصص بعضها ببعض وتحركها. وعلى الرغم من أن الأطفال قد يفتقرون لمفاهيم كافية للتسلسل التاريخي، فإنهم يفهمون بوضوح "قبل" و"بعد" و"منذ وقت طويل" و"للتو" وهلم جرا. وعلى الرغم من أنهم قد يفتقرون لمفهوم مجرد لــــــِ "المَلَكِيَّة" أو لتفاعل العناصر داخل الهياكل السياسية، فإنهم يفهمون بوضوح مصطلحات القوة والضعف، والقهر والنقمة والتمرد، والطموح والعقاب. وعلى الرغم من أنهم قد يفتقرون لمفاهيم متطورة حول السلوك البنّاء أو الهدّام سياسياً، فإنهم يعرفون بوضوح مفاهيم الجيد والرديء.
قد نلاحظ أن هذه القائمة المختصرة للمفاهيم التي يمتلكها الأطفال الصغار بوضوح تضم بعض المفاهيم الأساسية للفهم التاريخي. يتعلم الأطفال في الحياة العائلية العادية، على سبيل المثال، مفاهيم القوة والكرم والقمع والاستياء والتمرد والشجاعة والجبن، ... وهلم جرا. إذا قمنا بإجراء جرد بسيط لأنواع المفاهيم التي يجب أن يمتلكها الأطفال من أجل فهم القصص التي يستمتعون بها أكثر من غيرها، فستكون بحوزتنا مجموعة من المفاهيم المتاحة لتدريس التاريخ. أحد الأخطاء الشائعة التي يقع بها أولئك الذين يستنبطون المناهج من نتائج علماء النفس هو الخلط بين المفهوم والمضمون. ويلاحظ ديفيد إلكيند (David Elkind)، على سبيل المثال، من دراسات تجريبية أن المفهوم الرسمي "العقيدة" "يتطور" فقط خلال فترة المراهقة؛ ويستنتج من هذا أنه لا جدوى من تعليم الأطفال الصغار حول الديانات المختلفة (إلكيند، 1979، ص: 212). ينبع منهاج الدراسات الاجتماعية القائم على "توسيع الآفاق" بأكمله من التباس مماثل بين المفهوم والمضمون، إذ يفترض أن حقيقة أن مفاهيم الأطفال كانت قد استنبطت من مضمون تجاربهم اليومية تحتم علينا أن نبدأ بتعريفهم على العالم الأوسع من خلال البدء بذلك المضمون. لذا، فلدينا منهاج ينتقل من الأسر إلى الأحياء إلى المجتمعات المحلية، وهكذا دواليك، محولاً محتوى التجارب اليومية للأطفال إلى مواضيع، وعلى ما يبدو معلماً الأطفال المفاهيم بشكل هامشي فقط قبل أن يكونوا قد تعلموها من تجارب الحياة اليومية على أية حال.
ولكن مضمون التجارب اليومية للأطفال ينتج أيضاً المفاهيم الأساسية التي نستخدمها لفهم العالم: الحب/الكراهية، والخوف/الأمن، والجيد/السيئ، والشجاعة/الجبن، ... وهكذا دواليك؛ وكون هذه المفاهيم متاحة لفهم مضمون يختلف تماماً عن تجارب الأطفال، يبدو واضحاً من أنواع القصص التي تستحوذ على اهتمام معظمهم.
يدعي بيرتراند رَسِل (Bertrand Russel) أن المهمة الأولى للتعليم هي القضاء على طغيان ما هو محلي على الخيال. عندما يأتي الأطفال الصغار للمدرسة للمرة الأولى تكون المفاهيم الرئيسية المتاحة لديهم هي تلك التي كانت قد تشكلت في تعلّم العادات والعلاقات بين أفراد أسرهم وأصدقائهم، وخلال عمليات التكيّف الفسيولوجيّة مع عالمهم المحلي الجديد في وقت مبكر، وعمليات تعلّم طريقة عمل ذلك العالم المحلي، يمر الأطفال بالتعلّم الأكثر عمقاً وقوةً في حياتهم، إذ يخضعون يومياً لصراعات وعواصف وتأقلمات جبارة. ولا نستعيد كثافة الحياة في السنوات الأولى في وقت لاحق إلا في ومضات قصيرة. إن ملء الطفولة هو ما يجعل الحياة تبدو طويلة. ويبدو من المهم تربوياً استخدام المفاهيم المكتسبة في تلك الصراعات في وقت مبكر من حياتنا، كما يبدو من المهم أيضاً السماح للأطفال بأن يروا أن العالم الذي يدخلون فيه قد واجه صراعات من أجل البقاء والأمن والاستقلال النسبي، وهي صراعات مماثلة من ناحية المفهوم لتلك التي شهدوها هم أنفسهم.
إذا لم يتم تشجيع الأطفال على تطبيق هذه المفاهيم الأساسية في مضمون جديد، فستفشل المفاهيم حتماً في الخضوع للصقل أو التفصيل. يبدأ فعل تجسيد مفهوم ما في مضمون مختلف عملية التفصيل المفاهيمي. وقصة روبن هود ومساعدته للفقراء ضد بارونات جشعين بقيادة شريف نوتنغهام مفهومة للأطفال الصغار لأنهم يعرفون ما تعنيه تلك العلاقات بشكل أساسي جداً، فهم يعرفون الجرأة والإقدام، ويعرفون الظلم والاستياء، ويعرفون الجشع والغضب أيضاً. وفي الوقت نفسه، يصقل أولئك الأطفال مفهومهم للاضطهاد، على سبيل المثال، باستخدامه لفهم هذا المضمون، الذي يختلف تماماً عن تجاربهم الخاصة. قد نرى ذلك أيضاً على أنه تشجيع للخيال: استخدام مفاهيم مستمدة من تجربة مباشرة لإعطاء معنى لعوالم وعلاقات جديدة وجعلها ذات مغزى. ويبدو أن منهاج الدراسات الاجتماعية الحالي يحد من هذه العملية ويمنعها باسم "الصلة أو المواءمة"، إذ يعتبر العديد الصلة بتجارب الطفل والمواءمة لها مبدأ أول في التدريس. ولكن الشائع بشكل أكبر هو أن يتم تفسير "الصلة أو المواءمة" من حيث المضمون وليس من حيث المفهوم الذي يدعمها، ولذا تتم تعبئة المنهاج بالأشياء ذات الصلة بتجارب الأطفال اليومية والمواءمة لها، ما يحول دون ذلك التفاعل الجدلي مع مضمون جديد ومختلف للغاية، ومن شأنه أن يشجع على تنمية الخيال وزيادة الفهم. إذا اعتبرنا "الصلة أو المواءمة" من حيث المفاهيم، فسنرى أن أي شيء في الكون يمكن التعبير عنه من حيث المفاهيم التي يمتلكها الأطفال الصغار يمكن أن يكون "ذا صلة أو موائماً". كما أننا قد نرى أن الدافع الذي يجذب الأطفال الصغار إلى ما هو غريب وعجيب في الزمان والمكان سليم تربوياً، وهو دافع قد يكون من الحكمة أن نتفحصه بعناية. إن ما يسعى إليه الأطفال هو صلات بين المفاهيم لديهم وبين المضمون الذي هو بعيد عن تجاربهم اليومية قدر الإمكان.
قد نلاحظ أيضاً أن الأشياء من حولنا هي آخر الأشياء التي نقدرها فكرياً؛ فوالِدينا هم في العادة آخر الأشخاص الذين نعرفهم. يقول الكليشيه السائد إن الأسماك لا تكتشف الماء، وبالمثل، يُؤخذ أيضاً المحيط المباشر للطفل الصغير على أنه أمر مفروغ منه لا يتم استكشافه بشكل ذي معنى. وأشار الشاعر تي أس إليوت (T.S. Eliot) إلى أنه "فقط في نهاية استكشافنا نعود إلى حيث بدأنا ونعرف ذلك المكان لأول مرة"، وهذا يعني أننا نرتكب خطأ ثانياً بأن نفترض أن الأطفال على صلة بمحيطهم المباشر وبتجاربهم بشكل ذي معنى من الناحية المفاهيمية. تعطينا تلك المحيطات والتجارب مفاهيم يمكننا استخدامها في استكشاف العالم، ولكن لا يمكننا أن نأمل أن نلائم المفاهيم مع المضمون الذي أعاد ربطها معاً إلا بعد ذلك بكثير. قد يبدو هذا الأمر شاعرياً جداً وغريباً، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يكون صحيحاً، وإذا كان كذلك فإن المربين الذين يفترضون أن "الصلة أو المواءمة" تأتي من المضمون القريب من تجارب الأطفال يرتكبون خطأً أساسياً – وهو خطأ يقوض تعليم الأطفال.
حتى وإن صح، كما يؤكد لنا المحققون البياجيون، أن الأطفال لا "يطورون" المفاهيم المجردة المهمة للفهم التاريخي حتى سن المراهقة، فلا يعني هذا أنه لا يفترض فينا، أو أننا لا نستطيع، تدريس التاريخ حتى ذلك الحين (هالام، 1969، ص: 3-12). لقد اقترحت آنفاً كيف يمكننا أن نجسّد المضمون التاريخي ضمن المفاهيم التي كان الأطفال قد طوروها بالفعل، ولكن يجب أن أؤكد أيضاً أنه بغض النظر عن الشكل الذي قد يأخذه أي فهم منقح ومتطور للتاريخ، فإن التعليم مهتم بإنشاء المتطلبات المسبقة الأساسية لذلك الفهم بشكل ثابت. من الجيد للغاية أن نلاحظ أن الطلاب لا يطورن في العادة مفاهيم مجردة معينة إلا في وقت متأخر فقط من سن المراهقة، ولكن ما نحتاج لأن نلاحظه أيضاً هو أن كفاية ذلك التطور سوف تعتمد على مدى تطويرهم لمتطلبات متعددة لتلك المفاهيم المجردة. فالطفل الذي استمتع بقصص روبن هود، والملك ريتشارد، والملك جون؛ والذي كان مفتوناً، على سبيل المثال، بكتاب ديفيد مكاولي (David McCauley) حول بناء كاتدرائية في العصور الوسطى؛ والذي قام ببناء قرية نموذجية من العصور الوسطى؛ والذي أصبح مفتونا بـــِ "الملك جون السيئ" وقراءة كل ما يمكن العثور عليه حوله؛ والذي كان عادة يستمتع كثيراً بتعلم أشياء من العصور الوسطى في موقف أفضل "لتطوير" مفاهيم تاريخية أكثر تعقيداً من ذلك الطفل الذي تُعتبر كل هذه الأمور بالنسبة له فراغاً. بمعنى آخر، لا "تتطور" المفاهيم التاريخية بطريقة سحرية، ويتحدد كل من تطورها وكفايتها إلى حد كبير بتعلم المتطلبات المسبقة.
علاوة على ذلك، يشار إلى التعليم بأنه عملية "تكاملية هرمية"، بمعنى أن المرء لا يتقدم في مجال التعليم من خلال الانتقال من شيء إلى آخر، وإنما من خلال تكامل المرحلة الدنيا مع المرحلة التي ينتقل من خلالها إلى مرحلة لاحقة. نحن، كما ينبغي، لا نترك خلفنا أي شيء. قد ننسى، بطبيعة الحال، بعض الحقائق والتفاصيل، ولكن الصقل المفاهيمي والتوضيح الذي قد تكون تلك الحقائق والتفاصيل قد حفّزته يبقيان للاستخدام. ويعزز هذا من منظور آخر النقطة الذي أوردتها للتو حول فهم التاريخ: إن تعلم التاريخ الأساسي في وقت مبكر مهم للفهم في وقت لاحق، فما يتم تعلمه في وقت مبكر ليس مجرد متطلب مسبق للفهم في وقت لاحق، وإنما هو أحد مكوناته. وكما اقترحت للتو، فمهما يصل مستوى صقل فهمنا، إلا أنه يبقى صقلاً لتلك المفاهيم الأساسية التي نتعلمها في السنوات الأولى من حياتنا.
ربما أكون قد أعطيت انطباعاً بأنني أفضل منهاجاً مكوناً من قصص تاريخية. لا أرى أي سبب يمنع الأطفال من قراءة مثل هذه القصص أو تمنع قراءتها لهم، ولكن هذا ليس بتاتاً نوع المنهاج الدراسي الذي يدور في ذهني. تميل استكشافات الأطفال الأولى للعالم الخارجي لئلا تهتم بحدود الواقع بشكل كبير، ولكن من المهم أن ترتبط حياتهم المفاهيمية الواضحة في حدود سن الستة أو السبعة أعوام بالواقع. المبدأ الأول المهم الذي يجب أن نلاحظه في تعليم الأطفال حول العالم الحقيقي هو أن نظرتهم له وتعاملهم معه قد تبدو مستقبلية -وأجرؤ على القول "بشكل طبيعي"- على جبهتين. وبالمناسبة، لا تتبع أيٌّ من الجبهتين نمط توسيع الآفاق تدريجياً من تجارب فورية. فالأطفال أولاً يبدو أنهم مفتونون بما يبدو أنه تفاصيل عشوائية.
إنهم يجمعون بطاقات كرة القدم أو الهوكي أو الطوابع على سبيل المثال. كما أنهم يسعون وراء حقائق لا نهاية لها حول كل أنواع الأشياء التي تمس وعيهم من خلال أسئلة "لماذا" التي تسبب الجنون للآباء والمعلمين. أما نهجهم الثاني للعالم الحقيقي، وهو على صلة بالأول، فهو افتتان بالحدود المتطرفة للواقع، فمعظم الأطفال مفتونون، على سبيل المثال، بكتاب غينيس للأرقام القياسية، إذ أن كونهم غير راضين عن القصص الخيالية عن عمالقة مستحيلين يتجولون في الريف يدفعهم لأن يريدوا أن يعرفوا حقاً من كان أطول شخص وأصغر شخص وأسرع شخص والشخص الأكثر بدانة، ... وهكذا دواليك. ويبدأ استكشاف واقع، بشكل معقول تماماً، بمحاولة وضع حدوده.
تم تصميم منهاج الدراسات الاجتماعية الحالي بتجاهل تام لهذه الملاحظات المشتركة. إنه لا يفشل في ملاءمة نفسه مع ما يبدو أنه أقوى نبضات التعلم التي يظهرها الأطفال –وأكثرها عقلانية- فحسب، ولكنه يسعى جاهداً، وبشكل إيجابي، في الاتجاه المعاكس. يبدو أن استكشاف الأطفال للواقع يبدأ من حدوده ويعمل نحو الداخل نحو تجربتهم اليومية. وعلى النقيض من ذلك، يتفرع منهاج الدراسات الاجتماعية نحو الخارج على نحو نثري، من محتوى ليس للأطفال أي اتصال مفاهيمي معه، ويعمل ببطء نحو مادة تاريخية يفتقرون للفهم المطلوب مسبقاً لها. المبدأ الأول لتعليم التاريخ للأطفال الصغار هو أن محتوى المنهاج الدراسي ينبغي أن يتكون من أحداث حقيقية وشخصيات حقيقية وأوقات حقيقية وأماكن حقيقية؛ ينبغي أن تكون الأحداث درامية، والشخصيات بطولية، والزمان والمكان غريبين وبعيدين. قد نبني أحداثنا الدرامية المثيرة المختارة في إطار قصة الحضارة، التي يمكن سردها كأنها صراع ضد الجهل وضد الظلم، ... وهلم جرا. في هذا التاريخ كان هناك أبطال وبطلات حقيقيون فعلوا أشياء عظيمة، ومن المهم أن يتعلم الأطفال عنهم في وقت مبكر. يتوجب علينا في أية نقطة عدم تزوير الماضي لتصميم مثل هذا المنهاج. وربما يتوجب علينا تبسيطه، ولكن حتى السرد التاريخي الأكثر تعقيداً هو تبسيط بحد ذاته.
لقد جادلت بأن بمقدور الأطفال الصغار تعلّم التاريخ، وأنه من المرغوب فيه تربوياً وأنه ينبغي لهم القيام بذلك، وأن الأسباب التي تجعل بمقدورهم تعلم التاريخ وتجعل ذلك من المفترض تنطوي على منهاج مناسب.[2] إذا كان ما كنت قد جادلت به هنا صحيحاً، فإنه يترتب على ذلك أن الشكل المهيمن لمنهاج الدراسات الاجتماعية اليوم، وبخاصة في المستوى الابتدائي، هو غير أو ضد تعليمي. يشجع هذا المنهاج الجهوية والجهل بالعالم بأسره، ويبدو أنه مصمم للقيام بعكس ما ادّعى رَسِل (Russel) بأنه المهمة الأولى للتعليم: وهو تدمير طغيان المحلي على مخيلات الأطفال. يجب علينا، وفقاً لذلك، التخلص من الدراسات الاجتماعية في الصفوف الابتدائية، وإدخال نوع جديد من مناهج التاريخ للأطفال الصغار.
ترجمة: عدنان جولاني
المراجع:
- Hallam, Roy (1969) ”Piaget and the Teaching of History,” Educational Research, November, pp. 3-12.
- Elkind, David (1976) “Child Development and Education,” New York: Oxford University Press, pp. 211-15.
الهوامش:
* كيران إجان (Kieran Egan) أستاذ في التعليم في جامعة سيمون فريزر في كندا، ومقاله هذا مستل من مجلة (Primary History) العدد 50، ص: 11 - 13، خريف 2008، لندن، وقد ترجم خصيصاً لمجلة رؤى تربوية.
[1] عدد متضائل في علم النفس. الحكم الذي أصدره مؤخراً جون إتش فلافل (John H. Flavell) في (التعليق، في مجلة العلوم السلوكية والدماغية، العدد 2، 1978) (“Commentary,” The Behavioral and Brain Sciences, no. 2, 1978)، هو أن "نموذج بياجيه المرحلي للتطور المعرفي في مأزق خطير" (ص: 187). انظر أيضا:
Margaret Donaldson, Children’s Minds (London: Croom Helm, 1978); Geoffrey Brown and Charles Desforges, Piaget’s Theory: A Psychological Critique (London: Routledge and Kegan Paul, 1979); Linda S. Siegel and Charles J. Brainerd, Alternatives to Piaget (New York: Academic Press, 1978); and Kieran Egan, Education and Psychology.’ Plato, Piaget, and Scientific Psychology (New York: Teachers College Press, in press). Elkind, David (1976), p. 212.
[2] حاولت في كتابي "العقل المتعلم: كيف ترسم الأدوات المعرفية ملامح فهمنا" "The Educated Mind: How Cognitive Tools Shape Our Understanding" (شيكاغو: مطبوعات جامعة شيكاغو، 1997) أن أصف ببعض الإسهاب كيف يمكن أن يبدو مثل هذا المنهاج، مع أمثلة لخطط الدروس والوحدات الملائمة لمراحل مختلفة من التطور الشخصي.
المصدر: "رؤى تربوية" العدد 37