الصفّ (هنا والآن)
الصفّ ليس جدرانًا،
ليس سقفًا، ولا أرضيَّةً،
هو قلب ينبض بأصواتنا،
هو شجرة تنمو بين الأنقاض،
هو صدى أنفاسنا تحت الخيمة،
في الزقاق، في القبو،
حتى بين الركام يولد من جديد.
الصفّ يتنفس، يتلوى، يتحرك،
لا يكف عن النبض،
كل همسة، كل ضحكة، كل دمعة،
تصنع من المكان حياة،
تصنع من الركام بداية.
المعرفة ليست في الكتب هنا،
المعرفة تنبض بين النظرات المشتتة،
بين صمت سؤال عن مصير عائلة
وجواب محفوف بالألم،
بين ضحكة خافتة
وبكاء مخفي،
المعرفة تولد من الانتباه، من المشاركة، من الانخراط الكامل.
في زمن القصف، يصبح الضبط وهمًا،
أي نظام نريد لأطفال عاشوا الفوضى المطلقة؟
نظام يكتم الصدمة؟
أم فضاء يفتح الطريق للألم، للحزن، للدموع، للفهم؟
الفضاء هنا ليس سلطة، بل قلب الصفّ،
ينبض بين البكاء والضحك،
بين الخوف والأمل،
ينسج من الحزن عروشًا للمعرفة،
ومن الصمت أبراجًا للتعبير.
المعلمُ هنا ليس مراقبًا،
المعلمة هي ضوء يضيء في الظلام،
هو أذن تسمع الجروح الخفية،
هي جسر بين الانكسار والصمود،
يد تمتد، تنقل الطفل من ضحية إلى ناجٍ،
من ركام اليأس إلى حقل الحياة،
تتحرك معه أصوات الأطفال،
تتبادل الصدى،
تتراكم الخبرات،
تصنع معنى جديدًا في كل لحظة.
في الصفّ المختلف، بين الأنقاض، يولد التفكير،
حين تتلاقى أصوات الأطفال،
تحكي عن القصف، الفقد، الجوع،
عن البيوت المهدمة، عن الأحلام المحترقة،
عن الخوف، عن الحنين، عن الألم.
الكلمة هنا تتحول إلى مقاومة،
مقاومة الصمت،
مقاومة القهر،
مقاومة كل ما يحاول ابتلاع الطفولة،
حين يسأل الطفل بحرية،
حين يرسم أحلامه على جدار محطم،
يولد الإنسان من جديد،
يستعيد الصفّ صوابه،
يستعيد الطفل نفسه،
يستعيد الحياة بين الركام.
من الالتفاتة الأولى،
حين تشتت الأنظار بين صوت المعلمة وصدى القصف،
إلى الربط بين ما يسمعه وواقعه الأليم،
تبدأ رحلة الانتباه،
ثم الاهتمام،
ثم المشاركة،
ثم الانخراط الكامل.
الألم يتحول إلى طاقة،
الخوف إلى شجاعة،
والدمار إلى خرائط للبناء،
الحياة تنبض من بين الركام،
الوعي يزهر،
يصبح صدى أصواتنا،
يصبح نبضنا معًا، معًا، معًا.
الصفّ متنقل، خلية صمود،
كل طفل هنا يصبح معلم نفسه،
يتعلم التفاوض على المساحة،
يتعلم حماية الآخر،
يتعلم كيف يحيا حتى حين تحترق المدن.
الحرية ليست فوضى،
النظام ليس طاعة،
إنه رقص حيّ بين البكاء والضحك،
بين الخوف والأمل، بين الانكسار والصمود.
كل كلمة جسر،
كل حكاية حياة،
كل رسم على جدار محطم يعيد العالم،
كل دمعة تعيد القلب إلى النبض.
الحوارية الصفية ليست إدارة سلوك،
بل فعل بقاء،
تعليم الإنسان أن يحيى، لا أن يطيع،
أن يصغي لجراح الآخرين ليخلق معنى جديدًا،
القوة ليست في اليد التي تضبط،
القوة في القلب الذي يحتوي،
القوة في الكلمة التي تشفي،
القوة في الوعي الذي يبقي الإنسان حيًّا،
في وجه الموت،
في وجه الدمار،
في وجه كل شيء يحاول أن يسلبنا الحياة،
الصفّ ينبض،
الصفّ يحيا،
الطفل يحيا،
الصفّ والطفل، معًا، يولّدان الحياة من الركام.
* الصورة (الأطفال يرسمون في خيمة الفنان باسل المقوسي في غزة)