(1)
لا بدايات من الصفر، كلُّ البدايات تبدأ من منتصف ما، من وسط ما، بها ما قبلَها ولها ما بعدها، وبكل ما لها وما عليها. وموقع "تعبير" كذلك.
(2)
فبعد ثلاثين عامًا وأكثر، وبعد الأعوام الثلاثة الأخيرة تحديدا خضتُ في مجالات متعددة تقاطعت مع تجارب سابقة وافترقت في مجالات أخرى. وجميعها في التربية والتعليم والفنون والعلوم والتكنولوجيا في تكاملية وعبر سياقات ثقافية متعددة.
(3)
كنت، في هذه المرحلة من الحياة، أمام مفترق يتطلب الاختيار، بين دروبٍ معبدة لا مخاطرة فيها، وبين طرق وعرة غير مألوفة تقتضي المغامرة، وكان الاختيار صعبًا ولا زال، مع أنَّ المغامرة هي التي تترجح طرقُها، واخترت الخوض في تجارب جديدة مع كل ما في ذلك من عبء البدايات المتجددة وتعبها. فلن أتركً كلَّ ما نُسج أنْ يتبدد، بل على السجادة أنْ تُسهم في اقتراح المتجدد من أدواتها وألوانها وهيئتها وموقعها ومكانتها وتحدياتها وما يتطلبه ذلك من فعل ومخيلة وتفكير؛ سجادة لا نهائية ولا غاية واحدة لها.
(4)
في هذه الموقع إذن، سأحاولُ تضفير الأزمنة؛ خيوط الماضي والمستقبل مع إبرة (هنا والآن) وخيوطها.
تنطلق المنصة في ظرف تاريخي مفصلي يتطلب أن يتضافر الفلسطينيون فيه "أينما وجدوا" بكل خبراتهم ومعارفهم وتجاربهم من أجل أن نقلبَ محاولة الإبادة إلى فرصة تتشكل عبر فعل حر متعدد وعادل كي يكونَ بالإمكان تحقيق الحرية والعدالة المنشودتين اللتين تبدوان بحاجة إلى الكثير كي تبدوا أقرب من أي وقت مضى.
(5)
إن التعليم بما هو فعل ثقافي اجتماعي تاريخي فهو فعل سياسي أيضًا، ويمكن له أن يكون فعل عبودية أو أن يكون فعل حرية، يمكن له أن يُحبَسَ ويمكن له أنْ ينطلق. إن ذلك منوط بطبيعة رؤيتنا للتعليم ومتطلباته وبأفعالنا فيه في إطار المعنى الوجودي لفلسطين وشعبها.
(6)
إنَّ هذه المنصة ليست لفلسطين وحدها، بل هي محاولة لتقديم مساهمة في سياقات أوسع، وبخاصة السياق العربي بكليته. منصة تنشغلُ بالأطفال واليافعين العرب أينما وجدوا وأينما كانوا، وهي هدية أتطلع إلى استقبالها من كل من ينطق بالعربية. وهي تتطلع إلى المساهمة في التمكن من طلاقة التعبير كفعل اجتماعي وليس كرطانة بلاغية. وإن تغدو اللغة عبر كلامِها فاعلا مثمرا في إنتاج المعرفة، وليس فقط عبر حرية التعبير، بل عبر تحريره أيضًأ.
(7)
لقد بدأت فكرتُها، مع تجربتي في تطوير وحدات تعلم تفاعلية للأطفال واليافعين في مجال اللغة، وبخاصة الكتابة والكتابة الإبداعية. ولأنني قادم من عوالم الأدب والفن والتدريس والتقنية، فقد ارتأيت أنْ أنتج ما يعبّر عن تلك العلاقات العضوية بين العلوم والفنون والتكنولوجيا معًا في سياق تتحاور فيه طوال الوقت عبر الفعل والصورة والكلام، وبمعنى آخر عبر الجسد بكليته. وخلال العمل تطورت الفكرة إلى أن باتت تتطلع إلى أن تصبح منصة تربوية ثقافية تكاملية في المنحى والتوجه والممارسة..
(8)
ولعل تجربتي في تعليم الأطفال واليافعين وفي تدريب المعلمين والعاملين مع الأطفال في الحقول المختلفة أوصلتني إلى قناعة بأن التعبير هو جوهر التعليم، فدونه لا يمكن لنا أن نكوّن المعاني ولا أن نفسرها أو نأولها، ولن ينشأ ذلك دون حوار، فالكلام من حيث هو تلفظات هو جوهر الحوار. ولذلك، فإنني آثرت أن تتمحور هذه المنصة حول أنماط تمثيل العالم الثلاثة معا؛ الفعلي والبصري واللغوي. وستجدون في المنصة ثلاثةَ أبواب تعبر عن هذه الأنماط الثلاثة، وهي: اللغةُ والكتابة، الدراما والتعلم، الوثائقُ العائلية، ويتضمن كل باب منها مواد نظرية معرفية واقتراحات لتطبيقات ممكنة مع الأطفال واليافعين في السياقين المدرسي والمجتمعي. كما تتضمن المنصة بابًا رابعًا يختص بتناول قضايا التربية والتعلم والتعليم بالمعنى الثقافي الواسع المتشعب المتعدد الطبقات والمنظورات. ويشكل هذا الباب ما يشبه خيوط الشبكة التي تثري الأبواب الثلاثة المتخصصة بأفعالها، وأقوالها وصورها ورموزها.
والمنصة في أبوابها الأربعة هذه موجهة لكل المعلمات والمعلمين ولكل العاملين مع الأطفال واليافعين في المجالات والموضوعات المختلفة، وليست مقتصرة على حقل دون آخر، فهي ذات توجه تكاملي علائقي. وهي مفتوحة لكل من يرغب في محاورة المنصة؛ إفادة ورفدًا، مصدرا وموردا، قراءة ونقدًا، إلهامًا واستلهاما.
(9)
تبدأ المنصة انطلاقتها، وبحزن هائل، بملف "هنا والآن"، وهو ملف يقدم مجموعة من وحدات التعبير ومقترحات التدريس التي تتناول موضوع الطفولة والحرب والإبادة والحصار... فهم يعيشون ويلاتها كما يعيش الآخرون وربما أكثر، ونعبّر عن هذا الموضوع عبر أنماط تعبير متعددة كالكتابة والدراما والرسم. ويأتي هذا الملف استجابة لما يجري من وقائع تتقدمها حرب الإبادة ومحاولات التطهير العرقي والتمييز العنصري التي نتعرض لها كشعب فلسطيني، بأشكال متعددة في فلسطين التاريخية وفي الشتات وفي قطاع غزة حيث الوحشية في أكثر تمثيلاتها حضورًا.
ويمكن لهذه الفرصة أن تمنحنا فرصة رؤية حياتنا بصور مختلفة جدا عما ألفنها وفي كل مجال، وبخاصة في مجال التعليم، لعل حوارًا مجتمعيا حقيقيًا يسمح لنا بملامسة الواقع وظروفه ومتطلباته بحيث نستكشف رؤى إبداعية وتوجهات مبتكرة في كل ما يتعلق بالتعلم والتعليم وبأدوارنا فيه، وقد يفضي ذلك إلى اجتراح طرائق ومنهجيات جديدة واستنباط مصادر وموارد لم نألفها كثيرًا. إنَّ تعليما يأخذ بالاعتبار الدمار والفقدان وتحولات النفس الإنسانية وما يرتبط بكل ذلك من أحوال وأهوال هو الذي ينبغي له أن يقودنا؛ وحينها يمكن لنا أن نفكر بفضاءات تعلم ليس حبيسة جدران لم تعد موجودة أصلا، وبمناهج تقوم في جوهرها على تطلعاتنا كشعب وبمنهجيات تستند إلى ابتكارات مستقاة مما نمر فيه ونعبره. إن استعادة الماضي أو العودة إليه أو العمل على منواله سيحرمنا من فرصة الابتكار والابداع.
(10)
هذا موقع تتضافر فيه الذاكرة مع المخيلة في سياق واحد، عبر تعبير يحدث "هنا والآن". وعلي مسؤولية الاجتهاد لضم هذا الجهد إلى جهود كثيرة علها تفيد من بعضها وتحاور بعضها وتحبك سجادة متعددة الأشكال والألوان والأنواع والوظائف وتشكِّل مصدرًا يتيح للأفراد كما الجماعات التفاعل معها والمشاركة في نسيجها.
(11)
هذا ليس موقعًا كليَّ المعرفة، بل هو موقع آت من تجربة لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنها تجربة لا تغتر، وتحاول التجدد ما أمكن وترى التعليم في سياقه الاجتماعي ومنظوراته الثقافية الإنسانية كفعل تحرر وتقدم وتغيير ليس للأفراد كأحاد، بل للمجتمع كوحدة متعددة.
والتجربة لا قيمة حقيقية لها دون تأملها؛ تأملها بالعقل والفكرة، بالمخيلة والصورة، بالتشكيل واليد، بالقلب ونبضه، ... إن التأمل هو التدبر فيما نفعل وسنفعل وفعلنا، نفكر ونتساءل، نبحث ونستقصي، نجرب ونغامر، ونعبّر ونحاور.
وعلينا الإمساك بتجاربنا، في كل حقول العلم ومجالات العمل، ومن بينها تجاربنا كمعلمين، وعلينا أن نتأملها ونعبر عنها إذا أردنا لنا أن نجتازها دون أن نتجاوزها، ولا نترك لأحد أن يغدو صوتنا أو يصادره أو يتحكم به أو يعيد صوغه دوننا، فكل تجربةٍ فريدةٌ وكلُّ تأملٍ غني، وعلينا نحن أن نرويه، وحين نفعل ذلك فسيمتلك كل منا روايته، ويشتبك بها ومعها في حبك سجادات متجاورة متشابكة مشتبكة متناغمة متخالفة متضافرة متباعدة ولكنها جميعها تغدو كجداول تصب في نهر واحد غني ومتعدد؛ ماء وجريانا وترابا وصخورا وحصوات وحيوات، وينهمر كل منا فيه برؤاه وتأملاته وأفكاره وخياله وأسئلته ومشاعره وانفعالاته وثقافته ومغامراته وحواراته وتعبيراته وصوته.
وحين أفعل ذلكَ سيفعل ذلك أطفالي وتلاميذي وسيغدو لكل منهم صوتَه.
وحينها يغدو التأملُ مراجعة وتصنيفا واستبصارا وتدبرا واستقصاء ونقدا وتعبيرًا وحوارًا، سيغدو لا نهجي كمعلم أو معلمة فقط، بل نهج طلابي ونهج طالباتي أيضا. وحينها سنأتي بفكرة جديدة أو متجددة دومًا، فنحن لا نكرر شيئًا أبدًا، لن ننسخ بل نعبّر، وشتان بين النسخ والتعبير؛ التعبير كلاما وصورًا وأفعالا؛ عقلا وقلبا وعينا ويدا ولسانا.
وحين يغدو ذلك واقعا وحقيقة، أستطيع أن أقول ليس بملء الفم وحسب، بل بملء القلب والعقل والأجنحة:
إنني أُعلِّمُ الآن!
إنني أتَعلَّمُ الآن!
(12)
وهذا ما ستجتهد "تعبير" في انتهاجه، ولعلَّ الفعل "عبّر" بكل تصريفاته واشتقاقاته يحمل كل المعاني التي يمكن استنباطها قياسًا وسياقًا؛ ولأنها مبادرة واحدية فهي ليست فعلا أحاديًّا، بل هي حيث يكون الواحد متعددا، ويمكن لهذا التعدد أن يغتني حينما تتجاور خبرات متنوعة فيه، وهذا بيت لاستضافة خطاكم وخيوطكم. واعبروا فأهلا وسهلا.
ولا بد هنا من عرفان وشكر، وهذا ليس من باب الأعراف وحسب، بل من باب الاعتراف لمن وقف مع هذه المبادرة، ووثق بي. وهنا أخص الصديقَ العزيز هاني القطان رئيس مؤسسة يافا وفريقَها وبخاصة العزيزة هيا المجالي، فدون ذلك كان من الصعب لهذه المبادرة أن تجد طريقها كما هي تشق طرقها الآن. وأود التعبير عن تقديري لمركز خليل السكاكيني وفريقه الذي وفر المظلة القانونية والإجرائية للمشروع، كما أود التعبير عن الشكر والتقدير لمؤسسة فيصل الحسيني ومديرتها العزيزة فدوى الحسيني التي لم تتردد في دعم إطلاق المنصة.
(13)
وهنا أترك القول، لا مختتما له ولا مبتدئًا غيره، فكما أشرت في البداية، فإن هذه المبادرة تقع في منتصف ما، وكل منتصف يمكن له أن يكون مركزا حينا، وهامشا حينا آخر، ويمكن له أن يكون ابتداء أو منتصفا أو انتهاء. فهذه المبادرة تَعْبر بين العَبرة والعِبرة وما بينهما من عبور نفصح عنه حينا ونضمره حينًا آخر. وفي كل حالٍ فهي عبارات أكانت كلاما، أم صورًا أم أفعالا، ولهذا، فإنَّ هذا الموقع يدعى: "تعبير". وهذا ليس لأن الحياة ينبغي ألا تتوقف وحسب، بل أن تتغير أيضًا.
***