يشهد تعليم الأطفال في كل المجتمعات تحولات كبرى في النظرية والممارسة على السواء. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الأهداف المُحَصَّلة بعيدة عن مستوى التوقعات المأمولة. ببساطة، لأن المعلمين لا يشعرون بجدوى أساليب التعليم المتوفرة، وجلهم غير مستعد لخوض تجربة تعليمية جديدة، ما يعني أنهم يمثلون نموذج المعلم التقليدي الذي يمتلك سلطة مستمدة من طريقته التي ترفض التغيير، بدعوى أن نوعية الطلاب الذين يُدَرِّسُهم اعتادوا على أسلوبه في التلقين. أعتقد أن هذا النوع من نظرة المعلم إلى ذاته، سيفترض فيه العجز أمام تعليم أطفال معاقين أو ذوي احتياجات خاصة. فها هي هيثكوت ترفع سقف التحدي لتستخدم أسلوب الدراما في تعليم الأطفال المعاقين، وأحيانا مع الأسوياء في صف واحد، لتفضي بنا إلى أن التعليم موقف إنساني يستأهل أن نشحذ له كل قوانا، مستفيدين من كافة إمكانات النوع البشري للتعلم والتعليم معاً. لدى قراءتنا لهذا المقال، سنشعر بدقة بيتي جين واغنر في وصف تجارب هيثكوت التعليمية للأطفال المعاقين والأسوياء، وفي الوقت نفسه، سنفهم موقفها من التعليم بالدراما كوسيط للتعلم، وماذا يمكن أن نرجوه من هذا الأسلوب الذي يتوسله التعليم المتقدم، في حين أننا لا نلمس له أثراً في ثقافتنا إلا مجتزأً.
(المترجم)
_____________________________________________________________________________________________________________
لا تقيم دوروثي هيثكوت (الرائدة في الدراما في التعليم) في تعاملها مع الطلاب المعاقين أي تمييز بينهم وبين أي صف دراسي عادي آخر، بوصفهم نوعاً مختلفاً. وينبع هذا من التزامها بالتركيز على النقاط المشتركة بين الكائنات الإنسانية، بدل ما يميزهم، أو ما يفرق بعضهم عن بعض. ولأنه بإمكاننا أن نُسقط على الوضع الذي يعيشه غيرُنا من الناس ما تعلمناه نحن من تجربتنا الخاصة، فإننا نتمكن من الاندماج معهم. يُمَكننا هذا المعطى، إذا جاز التعبير، من التعرف على الأساس الذي تنبني عليه نفسية الأشخاص؛ ومن خلاله نستطيع أن نستكشف الجوانب المسؤولة عن الاختلاف لديهم، التي لم نتمكن من فهمها لحد الآن. ولِنتمكن، على نحو فعال، من تدريس أولئك الذي يجدون صعوبة في التعلم، والمضطربين انفعالياً، والناس ذوي الإعاقات الجسدية، فإن على المعلمين أن يندمجوا مع هؤلاء المتعلمين اندماجاً بالدرجة نفسها التي يتوجب عليهم الاندماج بها مع أي طالب آخر. وإذا بدا أن هؤلاء الطلاب مختلفون إلى حد بعيد عن المعلم، فإن بانتظاره/ـا مهمة صعبة للغاية، ومن الضروري أن يتم رتق الهوة. وإن لم ينجح المعلم في ذلك، فسيشعر المتعلمون بأن معلمهم شخص غريب عنهم.
لا تستبعد هيثكوت إمكانية الاندماج مع الأفراد مهما بلغت درجة تضرر أدمغتهم أو اضطراب عقولهم. فهي تعتقد أن التقنيات ذاتها يمكن أن تستخدم مع أي مجموعة من الطلاب. ولذلك، فإنني وضّحت، تشكيلة متنوعة من تقنياتها الدرامية، مع أمثلة من تجاربها مع المتعلمين المعاقين. وهي كثيراً ما تلجأ إلى مجموعات مثيلة كأساس لاختبار أي تقنية جديدة. وعندما تحقق هذه التقنية النجاح مع مجموعة المعاقين ذهنياً، فإنها -على الأرجح- ستنجح مع المجموعة التي لا تعاني مثل تلك التقييدات.
كثيراً ما تلح هيثكوت على طلابها المعلمين العمل مع أولئك الذين يجدون صعوبة في التعلم، لأن الضغط الذي توفره هذه الفئة يعد بمثابة أرضية اختبار لأي معلم مهما كانت المجموعة التي يدرسها. فمع المعاقين ذهنياً، ستعتمد أكثر على ما أنت عليه وليس على ما تعرفه. ويتوجب على الإشارات التي تبثها ناحية المجموعة أن تكون بغاية البساطة والوضوح والمباشرة. وعلى إيقاعك أن يكون بطيئا جداً. ولا يمكنك أبداً الاعتماد على المجموعة لتأخذ منك زمام القيادة بالسرعة أو السلاسة اللتين تتصف بهما الصفوف الأخرى.
تكمن الضرورة المشتركة بين كل المجموعات في أن تعثر على ما يثير اهتماماتها. فإن أنت أهملت فعلياً اهتمامات المعاقين ذهنياً، فستخسرهم جميعاً لا محالة. والتحدي الذي اكتشفته هيثكوت في اهتمامها الدائم تقريباً بمجموعة الأشخاص الذين يعانون صعوبات في التعلم، هو أن تثبت قدرتهم على تحمل المسؤولية، والمشاركة في صلاح المجتمع الإنساني. وبالطبع، لا تستثنى أي مجموعة أخرى من هذا الهدف، فالتحدي لدى ذوي الاحتياجات الخاصة، يستوجب التبسيط ليجعلهم قادرين على التعامل مع المشكلة التي يستطيعون حلها. نضيف إلى ذلك، أن مجموعة من ذوي صعوبات التعلم لديهم احتمال ضعيف للاقتراب من التحدي بناء على الثقة التي اكتسبوها من النجاحات السابقة.
كان اللقاء الأول لهيثكوت مع مجموعة من المعاقين ذهنياً والبالغين من العمر خمسة عشر عاماً، الذين يعرفون أنهم يتعلمون في مدرسة خاصة - يطلقون عليها "مدرسة المجانين"؛ لا يحبونها كما لا يحبون أنفسهم. لذلك، قررت أن الأهم بالنسبة لها هو أن تُريهم مدى قدرتهم على إنجاز مهمة صعبة. وكعادتها، بدأت بطرح السؤال: "هل أنتم جيدون في تذكر الأشياء؟". بعد ذلك سألتهم أسئلة من قبيل ماذا تناولوا في عشاء البارحة، وما هو اللباس الذي ارتدته معلمتهم الرسمية أمس، أخيراً، "هل تقدرون على تذكر مضمون رسالة لو أعطيتكم إياها؟". في هذه اللحظة هم على يقين أن ذلك بإمكانهم. سألتهم هل يعرفون أي دولة يمكنهم فيها أن يبدأوا الدراما. وقع اختيارهم على ثلاث دول؛ اختارت هيثكوت من بينها الصين، لأنها كانت الأبعد. أخبرتهم أن الطريق إلى الصين بعيدة جداً، ويحتاجون مدة طويلة جداً كي يصلوا إليها. بعدها سألتهم: "إذا أعطيتكم رسالة في الصين هل ستتذكرون مضمونها طوال الطريق إلى إنجلترا؟". وبتلهف أكدوا لها استطاعتهم، وبالتالي حررت رسالة على بطاقة عريضة.
الصين بحاجة للمساعدة، من فضلكم، هل تستطيع ملكة إنجلترا إرسال مساعدة لأهالي الصين؟ |
قبل أن يبدأ يومهم حذرتهم: "إذا تم الإيقاع بكم، يجب ألا يعلم أحد بمضمون الرسالة". تداولوا الأمر فيما بينهم، فقرروا أنهم لن يتمكنوا من تذكر مضمون الرسالة طوال مدة الرحلة، وبالتالي على الرسالة أن تكون مكتوبة. وقرروا أن يقصوا الرسالة إلى أجزاء صغيرة ويعطوا كل شخص كلمة. وبهذه الطريقة، حتى لو تم الإيقاع بهم، فلا أحد سيكون قادراً على معرفة حقيقة محتواها؛ وفي الوقت نفسه، حتى لو نسوا المحتوى، فسيتمكنون من إعادة تشكيله من الكلمات المفصولة التي يحملونها.
تحدثوا لدقائق عن التمرن على قراءة كلماتهم. بعدها سألتهم هيثكوت أين سيضعون البطائق طوال اليوم، حتى لا تبتل أو تسرق، وحتى لا تمحى منها الكتابة. وتدريجياً بدأوا بتأمين البطائق على طريقتهم، ودون مساعدة من أحد. بعد ذلك انطلقت الرحلة. استمرت طوال الصباح – أربعون يوماً وأربعون ليلة بدلالة لغة الدراما. وأخيراً، وصلت المجموعة إلى ملكة إنجلترا، وقد أخذ منهم إعادة تشكيل الرسالة وقتاً طويلاً (أولئك الذي يحملون كلمات مثل (to) أو (the) اضطربوا كثيراً)، وأخيراً سحبوها جميعاً وأثبتوا لأنفسهم أنهم قادرون على استخدام عقولهم لتذكر الأشياء حتى ولو كانوا في "مدرسة المجانين".
حتى لو وضعت هيثكوت تحديات بسيطة، فهي لا تتخلى في الصف أبداً مهما كانت درجة إعاقة الأطفال، عن التحدي الأساس المتعلق باتخاذ القرارات والعمل على أساسها. هدفها هو أن تساعدهم على اكتشاف كفاءتهم الخاصة، وذلك لن يتحقق إذا أصبحت مجرد راشد "يعتني بهم".
تستهدف هيثكوت عند التقائها بمجموعات المضطربين عقلياً، أن تبين لهم أنهم قادرون على مواجهة المشكلات والمصاعب. فلأجل مجموعة نساء راشدات في مستشفى الأمراض العقلية، أحضرت هيثكوت كومة ضخمة من فساتين وثياب قديمة لأجل الحفل، وقلائد طويلة وأوشحة. رتبتها حسب الألوان، ووزعتها على صف الكراسي الطويل على امتداد حائط القاعة الكبيرة. وعندما وصلت مجموعة النساء المضطربات عقلياً -كل اللواتي كن نزيلات في المستشفى لفترة طويلة من الزمن- أخبرتهن هيثكوت بأنهن في طريقهن لحفل راقص. كانت مهمتهن الأولى هي اختيار الطقم المناسب للحفلة الراقصة من بين الملابس المبهرجة الموجودة على الكراسي. هنا كانت النساء المكتئبات والمنطويات على أنفسهن، اللواتي لم يمتلكن يوماً الكثير من أي شيء في حياتهن، ولسنوات لم يجدن أي ذريعة للتأنق، يؤكدن لأنفسهن بأنهن يتمتعن بخفة الظل للاختيار وروح الرقص. وبعد أن ساعدت كل واحدة منهن الأخرى على التأنق، أعددن المرطبات، وقدمن دعوة للعاملين للانخراط معهن في حفلتهن.
من بين الأساليب الأكثر فعالية لكبح توتر مجموعة من ذوي صعوبات التعلم، أو الأشخاص ذوي الانفعالات المضطربة، هو أن تقحم بالغاً آخر في دور، بهذه الطريقة يمكنك أن تجر المجموعة للتركيز الذي يستمر لفترة كافية في انتظار شيء ما ليحدث.[1] إذا كان الشخص الذي يلعب الدور سريع التأثر بالنقد، أو غير محصن في الدور، أو في حاجة للمساعدة، فإن الصف لديه فرصة قيمة لإثبات جدارته.
من بين الأدوار الأكثر فعالية للمجموعة التالفة الدماغ، هو دور رجل البرية. فحين يدخل مجموعة من نزلاء المستشفى، وبخاصة الأطفال ذوي الدماغ شديد التلف، إلى الغرفة التي ستجري فيها هيثكوت إحدى حصص الدراما، فإنهم لا يرون أمامهم سوى شاشة. من خلفها، تأتي زمجرة مؤلمة، ودمدمة، وأنين، وضربة على الردف، وتمزيق، وأصوات عواء، مثلما يفعله الأسد في ذروة الصراع. (كان هذا في الواقع شريط مسجل أعده معلمان في وقت سابق). ومن خلف الشاشة تتطاير أجزاء وقطع جلد الحيوان. عندما جازف الأطفال بالتحديق حول الشاشة، رأوا رجل البرية (أحد المعلمين في دور) وهو يرتدي جلداً بالياً. مستلقياً على الأرض، كله أشعث. تمت مشاهدته وكأنه كان في حرب ضروس مع حيوان بري. خلق المعلم لدى الصف الحاجة لتقديم الحماية، والاستجابة، والمساعدة. لمسوه لمنحه إحساساً بالأمان، وبعدها أطعموه وحمموه. وبالنظر إلى هيثكوت، فهي تفضل على الدوام أن تعطي الصفوف أشياء واقعية ليقوموا بها، فهي لا تقتصر على التمارين في الدراما.
أحياناً، يكون لدى هيثكوت صف مستكشف لرجل البرية في خيمته أو في جزيرة. يمكنه أن يكون الشخص الذي يعرف أقل مما نعرفه، ويحتاج منا المساعدة، وفي الوقت نفسه، الشخص الذي يستطيع أخذنا إلى عالم آخر. عندما قامت هيثكوت بأخذ مجموعة من ذوي صعوبات التعلم على قارب نحو جزيرة، وبعد ذلك إلى الخيمة التي وجدوا فيها رجل البرية، قالت، وهي في دور أحد أعضاء مجموعتها: "نحن جائعون جداً".
نظر رجل البرية إلى الأعلى قائلاً: "الأشجار مثقلة بالفاكهة". وشرعت هيثكوت مع الأطفال بإسقاط ثمار الأشجار على جزيرته، وبدأوا بقضم الفواكه التي يلتقطونها. إلا أن رجل البرية منعهم من ذلك. لا، عليهم أولاً أن يطلبوا بركة المطر والشمس قبل أن يتجرؤوا على أكلها. رجل البرية الذي لم يكن مساعداً في عالمنا يمكنه أن يساعد الآخرين في عالمه.
ذات مرة، وضعت هيثكوت امرأة صغيرة بالغة في دور طائر، ضمن مجموعة المعاقين ذهنياً بعمر 16 سنة في المستشفى. غطت الإطارات الكبيرة لنظارة المرأة بورق الألمنيوم، وجسدت به أشكالاً هندسية في الزوايا العليا لإبراز عينيها، والإيحاء بماهية الطائر. ألبستها ثوباً مسترسلاً وربطت أوشحة النايلون المزركشة حول ساعديها وجسمها لتوحي بالريش. عندما دخل عليها الصف كانت جالسة هناك، تنظر بكآبة ولكن بإقدام.
أول طفل حضر كان مريضاً جداً؛ اندفع مباشرة بكرسيه المتحرك نحو الطائر الجالس على الأرض، يحدق فيه بثبات. نظر إلى يد هيثكوت قائلاً (بسبب ضعفه لم يتمكن من رفع رأسه والنظر في وجهها وهي واقفة بجانبه): "عليك ألا تحبسي أبدا طائراً بشرياً". وقد حركت هيثكوت يدها لتوحي له بأنها سمعت كلماته.
اتخذت المجموعة قرار إسعاف الطائر، ولكن قبل أن يتمكنوا من الهرب معه (المرأة الطائر)، عليهم أولاً أن يتعلموا التحليق. علمهم ذلك طفل يمتلك يداً واحدة، جسد لهم ماهية التحليق بقدميه ولاقى إجلالاً من زملائه. ساعدوا الطائر في مقاومته، حيث رفعوا عالياً وشاحه الريش ما استطاعوا، ودعموه بشجاعتهم، وثمرة عملهم كانت موجة من الأوشحة تتمايل بفرح، وأقدام ترفرف.
استخدمت هيثكوت إشارات غير لفظية لتحريك مجموعة أخرى من شديدي الإعاقة، وهم نزلاء المستشفى، في عالم الحوريات، وهي تعلم بأنها غير قادرة عملياً على رواية قصص الحوريات لهذه المجموعة بالذات، لضعف مدى تركيزهم ومحدودية لغتهم. لذلك، أعدت شاباً كأميرة حورية، ترتدي ملابسها كأي أميرة، على رأسها تاج، وفي يدها صولجان ويغطيها رداء شفاف ولامع. عندما دخل عليها الأطفال، لم يهموا بإطلاق الكلمات أبداً؛ طوال حياتهم وهم يتلقون وابلاً من الكلمات التي لا يستوعبونها. والآن هم في مواجهة علامة غير لفظية أمام أعينهم، وصمت رهيب يعم المكان. بدأت الحورية تصرخ لفظياً. كثير من هؤلاء الأطفال لم يتعلموا، على الإطلاق، كيف يتكلمون. ولم يتوفر لهم أي ظرف يدعم مقدرتهم اللغوية. حتى الممرضات اللواتي أسندت إليهن مهمة رعايتهم، يفتقدن الوقت والصبر ليبنوا لدى هؤلاء الأطفال الروابط الاعتيادية التي يقيمها غيرهم من الأطفال بين الكلمات والأشياء. وحتى الأوصياء عليهم لا يدخرون جهداً في إلباسهم وإطعامهم (وهذا كله يتم في كثير من الأحيان من دون كلمات). لذلك، فهم مُقصَوْنَ من استخدام اللغة لتلبية حاجاتهم اليومية.
كان هدف هيثكوت مع هؤلاء الأطفال، استخدام الإشارات غير اللفظية لتستميلهم تدريجياً نحو اللفظية منها. اكتشفت أن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة يجلبون إلى عالم الحوريات أشياء بدائية، وبدوا متعطشين جداً لتجارب الخيال.
في المرة الأولى التي جلبت فيها هيثكوت الأميرة الحورية لمجموعة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، امتلكوا اللغة وافتقروا إلى الدافع للمشاركة في مهمة جماعية. هذه المرة أعدت هيثكوت دافعاً، حيث جعلت قدمي الأميرة حافيتين. فعلى الرغم نت أنها مجهزة بكل ما تتجهز به الأميرات، فإنها لا ترتدي حذاء. تساءل الأطفال: "لماذا لا ترتدي الأميرة حذاء؟"، فقيل إن مشعوذة سحرتها. أجمع كل من في الصف على أن الأميرة لن تبديَ أي حركة ما لم يكشفوا عن اسمها. بدأ الأطفال يخمنون الاسم، أحدهم قال "بوب"، والثاني قال “ماري” والثالث قال "شاي". ترددت الأسماء بين أسماء البنين وأسماء البنات وأسماء الأشياء، ولا أحد منهم توقف عن التهجية. وأشارت هيثكوت إلى الأميرة ألا تدع الصف يفوز بسهولة. لم تجد المجموعة سوى طريق واحد، فعادت من جديد إلى التساؤل عن الحذاء، حيث فكروا بأن العثور على حذاء الأميرة سيبطل السحر، وستتمكن أخيراً من الحركة.
في اليوم التالي، أحضرت هيثكوت إلى الصف كومة من الأحذية البالية، غير متناظرة وبمقاسات وأطرزة متنوعة، وهناك كانت تقف الأميرة كما في السابق، تبدو سعيدة للغاية لكنها لاتزال حافية القدمين. عمل الصف بجد من أجل ترتيب وتصنيف كومة الأحذية فردتين فردتين ما أمكن ذلك. وبجهد جهيد جربوا على الأميرة كل الأحذية التي رأوا أنها تليق بها كأميرة، ولا فردتي حذاء ناسبت مقاسها. زوج الحذاء الوحيد التي ارتأوا أنه قد يناسبها حقيقة عبارة عن خفين صينيين رقيقين لكنهما صغيرين جدا عليها. ما دفع بكافة المجموعة للنزول إلى دكان الأحذية الخاص بالمستشفى للحصول على بعض الحرير والبلاستيك وقماش فضي وإبر وخيط؛ بهذه الأغراض يمكنهم أن يصنعوا بعض الأحذية للأميرة، بدت وكأنها السفن التي تنقل الحمولة، لكنهم لم يخطئوا أحذية الأميرة، ألبسوها إياها فبطل السحر.
دفع هذا الحدث بهيثكوت نحو المضي قدما بالدراما مع السؤال “إلى أين هي ذاهبة؟ ““، أصرت الأميرة أن يخمنوا ما الذي اقترفوه بحقها. الدور في حد ذاته ظل يطرق على فكرة أن هذا الشخص ليس عاديا: إنها مختلفة. وقد جلب الصف عالم الحوريات إلى وصفهم لجولتها معهم ملحين عليها أن تأخذهم معها. فهؤلاء الأطفال المضطربين عقليا، الذين وجدوا أنفسهم طوال الوقت مطاردين ومقيدين باستيهاماتهم الخاصة يتشاركون الآن في مجموعتهم، وبتلهف كبير، قصص الحوريات.
في مناسبة أخرى، أرادت هيثكوت تحقيق هدفها في مساعدة مجموعة من ذوي الاحتياجات الخاصة – يبلغون من العمر 13 عاما- لتنمي لديهم تصور أن “اللحم يقطع أشواطا قبل أكله”، يكون حيا ومتحركا قبل أن يصل إلى مرحلة الجاهزية للأكل. وضعت هيثكوت أمامهم طفلا جائعا في مهده (دمية وصراخا مسجلا على شريط) وامرأة في دور الغجرية تنظر وهي قلقة وجائعة، تأخذ الطفل وتعيده ثانية إلى مكانه. حاول الصف إراحة الطفل ولم يفلحوا. بعد ذلك أحضرت هيثكوت أرنبا ميتا، وفي حلقه جرح غائر. وعقل الأطفال يعج بالأسئلة حول هذا الأرنب - لماذا أذنيه يتدليان إلى الأسفل بدل الارتفاع إلى الأعلى؟ ولماذا لا يركض كما تفعل كل الأرانب؟ - أرادوا في حينهم لمس الجرح على حلقه فاكتشفوا لأول مرة في حياتهم أن للدم مذاقا ورائحة. اصطحبت هيثكوت صديقا قام على مهل بنزع جلد الأرنب أمام صف في غاية الابتهاج. عندما نزع عنه الجلد ووضعه على الرضيع، اعتقد الأطفال أن أمامهم أرنبان، أخذوا الجلد ووضعوه على الهيكل العظمي للأرنب الميت، وتمنوا لو يركض من جديد. شرعت هيثكوت في تقطيع الأرنب ووضعه في آنية كبيرة أخذتها من مطبخ المستشفى، ووضعت عليها الخضار التي قشرتها وغسلتها بعناية بمعية المرأة الغجرية، وأطفال الصف يتابعون المشهد باحتفالية. صبت عليها الماء، وحملت الطنجرة بمعية الأطفال ووضعوها على النار. وحين حل وقت الغذاء أحضرت هيثكوت أكلة الأرنب التي أعدتها سلفا في البيت (ليس لديها وقت لطبخ حقيقي، فالطبخة تم إعدادها فحسب) تشاركوا الأكل وأعطوا القليل منه للرضيع وانضمت إليهم الأم الجائعة تنظر إليهم بسعادة غامرة.
يتمثل هدف هيثكوت أحيانا في مساعدة الأطفال الأسوياء لتطوير مقدرتهم على تقبل الآخرين المختلفين عنهم. وذات يوم طلب منها نقل صف من الأطفال العميان بشكل سلس، حيث كان عليهم التحرك من بيت صغير إلى غرفة الصف في مدرسة قريبة يرتادها 900 طفل سليم البصر. كان الموقف صادما بالفعل للأطفال المبصرين والعميان على حد سواء. وهيثكوت كانت بحاجة للعمل مع المجموعتين معا من الأطفال.
لقد بدأت العمل مع صفوف الأطفال المبصرين في مدرسة رحبة، واصطحبت للصف أحد المعلمين ليلعب دور الرجل الأعمى. وقد ارتدى قناعا من الورق المعجن المقولب طبقا لتفاصيل وجهه. لم يكن للقناع عينان، وبسرعة صدق الأطفال أنه بالفعل رجل أعمى، وجلسوا معا وسط الكذبة الكبيرة. وبدون إعانة من أحد، قرروا مساعدته والتعامل مع “عماه” جربوا إعانته على حل مشاكله؛ كيف يستخدم الملعقة للأكل، كيف يصل إلى الغرفة دون أن يصطدم بالأغراض أو يقع بينها، كيف يسلي نفسه عندما لا يتمكن من القراءة أو مشاهدة الصور، وما إلى ذلك. لكن “الرجل الأعمى”“ كان يتعلم بشكل بطيء.
وبعد أيام من العمل مع هذا “الرجل الأعمى” خاب أمل الأطفال، كان يعبث فحسب، ولم يعرفوا كيف يتصرفون معه. وفي صراعهم مع هذا المشكل العويص اكتشفوا أمرا بالصدفة، خطرت ببالهم فكرة العثور على أناس آخرين ليتعلموا منهم ماهية العمى ويستعينوا بهم لتعليم الأعمى كيف يتعامل مع واقعه. لقد أعدت هيثكوت مسبقا مجموعة عميان لأجلهم، إنهم الصف الذي سيلتحق قريبا بمدرستهم.
قادوا معلمهم المتعثر على مهل إلى آخر الشارع باتجاه المنزل حيث يعبر الأطفال العميان وهم في طريقهم إلى المدرسة. هناك صادفوا مجموعة من العميان يبلغون من العمر أحد عشر عاما. بعضهم يحمل في وجهه تشوهات مروعة وثقوبا غائرة كانت ذات مرة محلا لأعينهم. جلب الأطفال المبصرون الرجل المشكلة إلى وسط الغرفة وأجلسوه. إلا أنهم لم يتمكنوا من معرفة كيف يقدمونه لمجموعة عاجزة عن الإبصار ولا تتمكن من رؤيته.
عرف الأطفال العميان ما يتوجب فعله، بدأوا يتحسسونه - حجمه ورأسه الأصلع مرورا بقناعه الساحر الأخاذ. قبل وقت قصير كانوا راغبين في الحصول على أقنعة لأنفسهم، لذلك عملوا مع الأطفال المبصرين على صنع أقنعة بدون عينين لكل واحد منهم، تشبه إلى حد كبير قناع الرجل الأعمى، ليضعوها على وجوههم. وعندما قاموا بارتداء أقنعتهم شرعوا في العمل مع الراشد. لم يبدأوا بالتحسر على حاله ولم يشفقوا عليه ولم يكونوا عاطفيين ناحيته؛ لقد كانوا صارمين في عملهم، فأمامهم شخص كبير أعمى يجد صعوبة بالتقدم في العالم؛ إنهم يعرفون كيف يساعدونه؛ أولا اقتادوه نحو الحائط وجعلوه يطلق صرخة تجاهه وانعطفوا به نحو مركز الغرفة وجعلوه يصرخ ثانية لجعله يدرك التغير في صوته بين الصرختين، تحركوا به قليلا بَعدُ نحو الحائط، وجعلوه يكرر العملية من جديد. بعدها وضعوا كرسيا بينه وبين الحائط ليروا مدى قدرته على إدراكه من خلال ارتداد صوته عندما يصطدم بالكرسي. ثم غيروا موقع الأثاث في الغرفة لخلق طريق مليئة بالعقبات وجعله يبحث عن طريق سالكة وسط تلك الورطة. تمثلت خطوتهم التالية في أخذه خارجا لتعليمه لعب الكريكت. ” كل ما عليك القيام به هو قذف "الكرة" ، وأمنوا له المكان. عملوا بجهد وصبر ولكن بعناد، على أمل أن يوصلوا تلميذهم إلى مستوى من الاستقلالية. هنا بدأ الأطفال المبصرون يَشيدُون بفعالية ونجاعة تعليمات أقرانهم العميان الصارمة.
بعد أيام قليلة، عاد الأطفال العميان إلى المدرسة الكبيرة ليروا بأنفسهم كيف يتقدم ذلك الراشد، كانوا آنذاك يضعون أقنعة بلا عينين، أثاروا ضجة، ولكنهم أفلتوا أنفسهم من الاستجابات الصادمة لتسعمائة من الأطفال المبصرين الذين قد يروا فيهم أشخاصا بشعين، وبدلا من ذلك بدوا مدهشين للغاية. أقصى شيء رغب فيه الأطفال العميان هو أن يشاهدهم الجميع بأرجاء المدرسة؛ كل واحد منهم رافق طفلا مبصرا ينتمي للصف الذي كان فيه المعلم” الأعم“. لقد قرر الأطفال العميان التقدم إلى الأمام بينما رفاقهم المبصرون يوجهونهم بالكلمات فقط، هنا توجد عتبة"، “الآن منعرج نحو اليمين”، “أمامكم باب” وحتى يثيروا اندهاش الجميع بدأوا يهرولون بأرجاء المبنى بعد أن طلبوا من أقرانهم المبصرين بأن يصرخوا عاليا عندما يبلغون معلمة ما: “عتبة ! “،” منعرج ! “، “باب ! “، سيكون الأطفال العميان عندما يعودون إلى غرفة الصف، مستعدين ليخرجوا الأعمى المقنع إلى أرجاء المبنى. وللمرة الثانية يندهش صف المبصرين، فالعميان وبتعليمات شديدة الاختصار تمكنوا من المشي بأرجاء مبنى بثلاثة طوابق شاسعة وقد تعلموا كل شيء احتاجوا لمعرفته عنها؛ لقد صعدوا بالمُعَلم الطابق العلوي وأنزلوه من على الدرج ثانية، وعبروا به الأروقة، مرورا بحجرة الغلايات في القبو. أشاروا إلى مطفأة الحريق والهاتف و المبوَلات في المراحيض. وبكل ثقة أرشدوه لفظيا ليعود إلى غرفة الصف، مصرين على عدم لمسه وهو يمشي. هناك، وبعد جولة تعليمية موجزة واحدة، دلوا المعلم الذي “فقد بصره” مؤخرا كيف يتجول في مدرسته بلا عينين.
تًمثل إنجاز هيثكوت في جعلها لذوي الاحتياجات الخاصة يعتلون موقع السلطة فيحتاج إليهم الآخرون. ورغم كونهم غرباء، إلا أنهم عرفوا الآن بأن حتى الطلاب الذين كانوا هناك ابتداء بروضة الأطفال لم يكونوا يوما في وضع يتطلب منهم التغلب على الصعوبات. ولقد كانوا واضحين في تحملهم للمسؤولية حين تعلق الأمر بتعليم الراشد الأعمى. وحين نزع العميان أقنعتهم، لم يكن مهما الشكل الذي ستبدو عليه أعينهم الفاقدة للبصر؛ إن لهم جميعا أسماء وأصدقاء؛ أولئك الذين رأوهم في الأرجاء. إن “الإعاقة” لم تعد ذلك الشيء الذي يثير الشفقة أو الخوف. إنها ببساطة واقعة ذات مغزى تستدعي التجاوب والتقدير. لقد تعلم كل طفل مبصر أمرا جديدا؛ أن يتشارك البهجة باللمسة التي تدل على الابتسامة.
ترجمة: نعيم حيماد