لم يّخطر ببالي وأنا أطلِّع على مبادرة "تعبير" التي أطلقها ويرأس تحريرها الشاعر والكاتب المتخصّص في توظيف الدراما والفنون في التربية وسيم الكردي كمبادرة شخصية متعددة المسارات تأسست عبر تجربة ثقافية تربوية سوى مقولة بليز باسكال "لا يُظهر الانسان عظَمَتَه حين يلمسُ طرفًا واحدًا، بل حين يلمَسُ الطرفَين معًا في آنٍ واحدٍ، ويَشْغَلُ كلّ ما يقعُ بينهما من فراغ"، وهذا تحديدًا ما يقوم به الكردي، إذ تعمَلُ مبادرة "تعبير على "إِشغال الفراغ بين حقليْن معرفييْن هائلين، هما الدراما والتربية. بالاتكاء على معرفة واسعة وتداخلات معرفية متشابكة، تنطلق "تعبير" من فكرة بسيطة مفادها أن لدينا ما نودُّ قوله والتعبير عنه، وأننا بحاجة إلى "تعميق التواصل والحوار والإنتاج المعرفي" عبر أشكالٍ تعبيريةٍ تتناغم فيها اللغة والصورة والصوت.

 

الحوار كجسر نحو الإبداع والمعرفة

لا تهدف هذه المبادرة إلى تجسير المعرفة فقط، بل وتسهم أيضًا في تطوير مفهوم شامل للإبداع وطرائقه، فكُلُّ مَعرفةٍ جديدةٍ كما يقول فيجوتسكي هي مَعرفةٌ حواريةٌ؛ تقومُ على تَفاعلٍ مَا بينَ فكرةٍ وأُخْرى، إذ أننا عادةً "نعْرِف ضد معرفة سابقة" عبر تفكيك المعارف القلقة وغير المستقرة، وحيث تسبق الأسئلة الإجابات، ما يحوِّل الثقافة من تهويماتٍ إلى تطبيقٍ، ومن شكلٍ مجردٍ إلى "تواصلٍ اجتماعيٍ" يلامس الواقع، ويتداخل عميقاً بين التفكير الحرِّ والتعبير، الذي يعتبر تمرينا "يقودنا ونقوده"، حيث تتعمَّق الحاجة إلى التعبير – الذي "هو رحلة؛ وفي الرحلة استكشاف، مغامرة، تساؤل، بحث، تخيل، تجريب، تأمل، حوار، تشكيل..."، في ظل واقع تعليمي لا يمنح الطلاب فرصًا كافية لتجويد تعبيرهم، ما يدفعهم نحو استهلاك المألوف والمكرر. وبذلك، تعمل "تعبير" التي لا أرغب بوصفها بالمبادرة بقدر ما أود أن أسميها مساحةً للإبداع التفاعلي بين الدراما والتربية على تغذية الفكر الاستقصائي والنقدي.

 

ما بعد العدوان: من الاستجابة الإغاثية إلى تحويل الكارثة إلى فرصة

الواقع المعقد والشديد التناقض في الضفة وغزة وتحديدًا بعد العدوان الأخير لم يعد حالة استثناء؛ فما تعرَّض له الأطفال، يضيف الكردي "هو أقسى ما يمكن أن يصاب به مجتمع بشريّ؛ أطفالٌ بلا عائلات، بلا غذاء، بيوت، بلا مدارس، بلا أعضاءَ، بلا مشافٍ، بلا ألعاب، بلا كتبٍ، بلا وسائطَ رقميةٍ، وهذا معناه أن يحيا الأطفال في خوف، رعب، عزلة، قلق، توتر، وِحدةٍ، تجنُّبٍ، فيفتقدون فيه الحماية، الشعور بالأمان، السلامة، الصحة، الغذاء، الجماعة". يترتب على ذلك ضرورة البحث عن حلول تتجاوز الـ "استجابات الإغاثية"، لتحويل الـ "كارثة" إلى "فرصة".

وهنا يأتي دور "تعبير" في تقديم وحدات تعليمية تهدف إلى تطوير مهارات التعبير لدى الأطفال واليافعين، خاصة في سياقات الحرب واللجوء، مستلهمة تجارب انسانية من فلسطين والعراق، والبوسنة، وأوكرانيا، وإسبانيا. توفر هذه الوحدات رحلة تعبير تمكن الاطفال من ربط التعلم بواقعهم والتعبير عن تجاربهم والمشاركة المجتمعية وذلك من خلال الفنون والكتابة والرسم والتصوير والإنتاج الرقمي، كما تركز على مفاهيم إنسانية مثل الحماية والتضامن والتكيف، وتساهم في التعافي النفسي والاجتماعيِّ عبر تعزيز الصمود والتضامن والثقة بالنفس. من بين هذه الوحدات نجد قصة "اليوم الذي جاءت الحرب فيه" عن فتاة فقدت بيتها وأهلها ومدرستها نتيجة قصف بلدتها، وانتقالها إلى بلد آخر عبر رحلةٍ مؤلمة ومتعبة وقاسية إلى أن تصل إلى مخيم لاجئين لا يوجد في مدرسته كرسيّ إضافي لها، إلى أن ينتبه طفلٌ ويبحث لها عن كرسي ويأتي به لها في اليوم التالي كي تتمكن من الانخراط معه وزملائه في صف "اللجوء"،وانتقالًا إلى مقطع من رواية إبراهيم نصر الله "أرواح كلمنجارو" التي تحكي قصة أطفال فلسطينيين فقدوا أطرافًا لهم وقرروا صعود قمة جبل كلمنجارو، وانتهت بكتابة التلاميذ لنص قصيرٍ تحت عنوان "كلب أعرج وساق خشبية" ويحكي عن سيدةٍ أقنعت زوجها بتغيير رؤيته للأطفال المعاقين مستندين إلى قصة "جراء للبيع".

تنظِّم "تعبير" مع طلاب المدارس الفعاليات الرقمية والوجاهية - التي تمثل جانبًا تطبيقًا. ففي الإنجيلية الأسقفية العربية / رام الله، يقول الكردي: "عبرنا معًا في رحلة مع رسالة لأبي يصف فيها لأخي عن قصف بيتنا في العام ١٩٦٧ مرورًا بدراجة يوسف الغزيِّ الحمراء التي أصبحت حديدًا، التي احترقت نتيجة قصف بيته.  أما في مدرسة فيصل الحسيني في القدس، فقد عمل الطلاب على تشكيلٍ بصريٍّ لبلدتهم مستندين إلى نص من رواية "كافكا على الشاطئ" لهاروكي موراكامي. بهذا، يتم اختبار التعبير عن القصص وقصصٍ مشابهةٍ ونقاشها والكتابة عنها كوسيلة لفهم الذات والمجتمع، ما يساعد الاطفال على تجاوز الأزمات وايجاد الأمل وسط المحن.

 

 

الصورة: من ديكور بصري إلى أداةِ تواصلٍ وإنتاجٍ معرفي

ومن منطلق اهتمامي بالصورة، يمكنني القول بأن هذا المشروع يشَكِّل نقلةً نوعيةً في فهم دورها في التربية وإنتاج المعرفة، بعيدًا عن كونها مجرد عنصرٍ بصريٍّ مكملٍ.. فبالإضافة إلى تجاهلها فلسطينيًا أو عدم الاهتمام بها وبقدرتها على الإِخبار وحمل الإيديولوجيا وتحديدًا في الإعلام والتربية، يتم الاكتفاء بها كديكورٍ بصريٍّ أو كفعلٍ توثيقيٍّ. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل تخطئ الخيارات أكثر مما تُصيب في نقل المعنى من خلال سوء الاختيار والتوزيع الخاطئ للموارد السيميائية، مثل المسافة، أو النظرة، أو المنظور، أو علاقات المركز والهامش، أو التوزيع البصري للفاعلين، أو العلاقات السيميائية البينية الأخرى. بذلك، تظل الصورة في ثقافتنا ظلًا يتحرك مع الأشياء عكس ما هي عليه في الواقع. ومن هنا، تأتي هذه الأهمية للمشروع الذي ينطلق بعيدًا عن الأيديولوجيا واشتغالات الحقيقة وليس بعيدًا عن خلق أيديولوجيته الخاصة وفلسفته في بناء ثقافة بصرية مدرسيّة. يعمل الكردي على تصميم "مخططات" لقراءة الصور، بحيث لا تقتصر على منهجية واحدة، بل تتيح إمكانية الحوار والتعديل وفقًا للسياق التربوي". وبهذا، يصبح لصور البيت، والتجوال في المسارات، كما للوحة - في رواية لهمينجواي مثلا، قصة نؤلفها.

 

الأرشيفات الشخصية: استعادة الماضي لإعادة إنتاج المعرفة

لا يقتصر المشروع على توظيف الصور الفوتوغرافية واللوحات في السياق التعليمي، بل يمتد إلى استخدام الوثائق العائلية واليوميات والمذكرات والرسائل والمراسلات كأدواتٍ للقراءة والمحاورة"، إذ يطرح الكردي تساؤلاتٍ حول كيفية توظيف الأرشيفات الخاصة في نسج الرواية الجمعية، وتقديم رؤى تتشابك فيها الأزمنة، ليصبح الماضي فضاءً لإنتاج المعرفة، لا مجرد ذكرى مجمدة.

فمن منظور أوسع يعكس الأرشيف حكاية البشر والأمكنة وتاريخها، و"كيف يمكن للأرشيفات الخاصة في فرادتها أن تسهم في تضفير الرواية/الروايات الجمعية وتقديم رؤىً تشتبك فيها الأزمنة؛ الماضي والراهن والمستقبل؟". فلا شك بأن مزج الفضاء الشخصيِّ والعام من خلال التعبير الدرامي والبصري واللغوي يؤدي إلى بلورة هويتنا وتشكيلها، كما في هذه الوثيقة من أرشيف يوسف كردي (1905 – 1996)، والد وسيم، الذي ولد في القدس وعاش بينها وبين حيفا ويافا إلى العام 1960، قبل انتقاله إلى رام الله ... "وكعادته لم يكن يترك قصاصة ورق إلا ويحتفظ بها، وهذه واحدة من الأوراق التي اكتشفتها في أرشيفه. والغريب أنه لم يشرح شيئًا بخصوصها أو يضع أية إشارة كالتاريخ أو المكان أو ...  كما كان يفعل غالبًا مع معظم الوثائق التي يتضمنها أرشيفه الخاص؛ الشخصي والمهني". هنا يُطرح على الطلبة سؤالٌ حول المعرفة التي يمكن لنا تكوينها من خلال سياق الوثيقة ومضمونها وسياق ظهورها، مثلاً.

 

الوثيقة

 

"القص" كتقنية سردٍ و"القص" كتقنية حذفٍ

لا تهدف المبادرة إلى تقديم سلسلةٍ من النشرات التربوية للمعلمين، والاكتفاء بنقد المنهاج الفلسطيني الجديد وتوجيه الرسائل إلى العاملين في مركز المناهج الفلسطينية لإعادة النظر فيما يتم اقتباسه، بل يتجاوز ذلك إلى اقتراح نماذجَ تدريسيةٍ مبتكرةٍ تمزِج بين النظريّ والتطبيقيّ. تقترح النماذج تدريس النصوص عبر طرائقَ تعليميةٍ منشِّطّةٍ، مع الاهتمام بتوظيف الدراما بشكلٍ منهجيٍّ في السياق التربوي. فمن جانب، يأخذ الطلاب "دورًا عضويًا في إنتاج المعرفة وتشكيلها لا في تلقيها بصورة سلبية"، ومن ناحيةٍ أخرى، تقدم "أنموذجًا مقطعيًا لتفاعل المعلمين مع نصٍ يتجاوزُ الطرائقَ التقليدية، ويفتح المجال لمحاورة المواد التي يُعلِّمونها، فلا يكونون مجرد منفذين لآلياتٍ مستهلكةٍ تتكرر مع كل نصٍ، وفي كل وقت"، مع إتاحة المرونة الكافية لتعميقها.

هناك سببٌ علميُ يبني على ملاحظة الباحث في اقتراح كل رزمةٍ، ففي عمله على سلسلة "رجال في الشمس، حضور النص ... وغيابه" مثلاً، لاحظ الباحث تأثير الحذف والتعديل وما تم اختياره من القصة في المنهاج المدرسيِّ والخيارات الفردية في التدريس على فهم الطلاب للحدث الرئيس مثل اختناق الشخصيات الثلاثة الرئيسية، ولأحداثٍ محوريةٍ مثل سبب سفرهم في الصحراء أو وجهتهم، أو تلكؤ موظفي الحدود في إنجاز المعاملات، إضافة إلى حجم التسْطيحِ في شخصياتٍ روائية مثل أبو الخيزران لدي طلاب الصف السابع.

بالمجمل، أدى تصرف واضعي المناهج الفلسطينية في الرواية من خلال انتقاء عباراتٍ وفقراتٍ محددةٍ من الفصول الثلاثة الأخيرة وإغفال أخرى، والتغيير في صياغة عدد من العبارات وتغيير بنيتها اللغوية والأسلوبية، وإعادة توزيع النص بطريقة مختلفة عن الأصل إلى فهمٍ مغايرٍ ومضللٍ، و"تدمير بنية النص الأصلية"، وإزاحتها "لصالح بُنْيةٍ أخرى"، إضافة إلى إنتاج دلالاتٍ جديدة مختلفة إضافة إلى تشويش النص.

يتضمن النموذج المقترح لمعالجة هذا توظيف الدراما في فهم المحور الرئيسي للقصة، أي المهاجرين وأسباب الهجرات، من خلال لعب الأدوار في هذه الحكاية، وخلق الصور الثابتة من خلال أجساد الطلاب، وتَمَثُّلِ الأصوات التي تخرج من الرأس، واللجوء إلى تقنية الشخصية الجماعية حيث يمثِّل الطلاب شخصيةً واحدةً في نفس الوقت، وتقنية مَسْرِبِ الوعيّ لاستكشاف أفكار الشخصية ومشاعرها، والاسترجاع الذي يعين على فهم تصرف شخصيةٍ ما من خلال استعادة الماضي، ضمن تقنياتٍ أخرى، مع تقديم الباحث مخططًا تدريسيًا لذلك ونماذجَ لأوراقِ عملٍ.

 

الشطب في المناهج الفلسطينية: من الأيديولوجيا إلى إعادة تشكيل جغرافية النصّ

يرصد المشروع كيف أن التعديلات التي تطرأ على النصوص المدرسية لا تكون دائمًا تقنية بحتة، بل غالبًا ما تعكس اعتباراتٍ قيميةٍ واجتماعيةٍ أو لغويةٍ أو أسلوبيةٍ. فهناك ما يسميه الباحث بالتوجس الاجتماعي، الذي يؤدي بالمحصلة إلى تدمير الأسلوبية والانتقالات الروائية بين السرد والحوار، وتحديد ما يمكن للطالب أن يتلقاه من معرفة بالعالم من وجهة نظر من قام بالقص؛ كما يؤدي إلى خلخلة ملامح الشخصيات، والتباس النهايات، وتشويش البنية السردية. ولهذا، تقترح "تعبير" عددًا من الأنشطة التطبيقية، ذات الأهداف المحددة والمسار الواضح والوقت المحدد، مثل نشاط "يوم في حياة الشخصيات"، والذي يهدف إلى "التخيِّل، استحضار صور من الماضي واستكشاف الدوافع التي أفضت إلى اللحظة الراهنة، بناء المشهد الدرامي، [و]تنمية الكلام الشفوي"، ثم يقترح أنشطةً إضافيةً مثل بناء العناوين الصحفية، وإعادة تعيين جغرافيا حركة الشخصيات، وتعيين رسالة شخصية محددة، أو خلق حوار بين الشخصيات أو توظيفها في سياق جديد، ضمن أخرى.

 

"تعبير": جدارٌ لنوافذَ عالميةٍ

تستند "تعبير" إلى شبكة واسعة من التجارب العالمية، لكنها تبني جدارًا لنوافذ فتحها آخرون حول العالم على هذا الحقل المعرفيّ الشائق، الشاق، والشائك، إذ يقدِّم لكتب، وأفلام، وترجماتٍ لمقالات، وشهادات، وقراءاتٍ في كتبٍ، ويحفزُّ على خوض مغامرات فكرية تشكِّل مصادرَ فكريةٍ يقوم عليها هذا المشروع، وتشكِّل بدورها مكتبةً رقميةً ثرية، تكشف عن جهد متخصص وكبير في هذا الحقل.

وفي واقع فلسطيني يعجّ بالتحديات، تأتي مبادرة "تعبير" لتمنح الأطفال واليافعين مساحة حرة للتعبير عن ذواتهم وتجاربهم، مستعينًة بالفنون والدراما كأدوات للمعرفة والتواصل. إنها ليست مجرد منصة تعليمية، بل تجربة حيَّة تعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين النص والصورة، وبين الحكاية والواقع. من خلال منهج تفاعلي يتجاوز النقد إلى بناء الحلول، تفتح "تعبير" نوافذ جديدة على الإبداع، وتؤسس لجيل قادر على قراءة العالم وإعادة صياغته برؤى أكثر عمقًا وإنسانية. بهذا، تصبح "تعبير" مشروعًا متكاملًا لا يكتفي بتقديم المعرفة، بل يعيد التفكير في طرق إنتاجها وتلقيها، ما يجعله تجربة فريدة في الربط بين الدراما والتربية.

 

 

 

 

 

 

مراجع وهوامش


المادة منشورة في صحيفة القدس (الأحد 16 آذار 2025)

https://alquds.fra1.digitaloceanspaces.com/uploads/e3423250edc6e53b40be9b4efe19846d.pdf