عرّبها: نورالدين شبيطة، عمر زيادة، راجعها:  سامي الكيلاني

 

حياة زوجة الجنديّ

بقلم: فيدكا، 11 عامًا

آخر ما تمتدّ إليه ذاكرتي هو حين بلغت السادسة من عمري؛ كنّا نعيش في فقر مدقع على هامش القرية. تألّفت أسرتنا من أبي، وأمّي، وجدّتي، وأختي. أتذكّر، كما لو كان حلمًا، كيف كانت جدّتي توليني من الحبّ أكثر ما تحبّني أمّي. كانت ترتدي روبًا أبيضَ باليًا وتنّورة مربّعات متهالكة، وتلفّ رأسها بخرقة كتّانيّة قديمة. كلّما هممت بالخروج والابتعاد، كانت تنادي: "احذر أن تؤذي نفسك يا فيدكا!"

كانت أمّي امرأة واهنةً. كثيرًا ما كان أبي يضربها عندما يعود ثملًا. كانت تذرف بضع دمعات في صمت. كانت ترتدي منديلًا من القطن المزخرف، وتسير حافية القدمين في الصيف، وفي الشتاء ترتدي صندلًا من لحاء الشجر.

كان أبي إذ ذاك، في الثلاثين من عمره تقريبًا؛ متوسّط القامة، ممتلئ الجسم، عريض الصدر. كانت لحيته قصيرة؛ يرتدي سترة زرقاء قصيرة. وكان يضع على رأسه قبّعة ساعي البريد. كنت أهابه؛ عندما كنت أرتكب أيّ مشاغبة كان يوسعني ضربًا ويشتمني. عندما كان يبدأ في ضربي كنت أهرع مباشرة إلى جدّتي؛ وهي كانت من يحميني.

كانت أختي دائمة الانفعال. عندما كان شيء ما يثيرني حقًّا كنت دائمًا ألجأ إلى أختي الكبرى لأنفّس عن شحنتي العاطفيّة.

في أقصى زوايا ذاكرتي، يبدو كوخنا في حالة متداعية؛ إذ كنّا نسنده بالدعامات. كان الكوخ ضيّقًا أصلًا، وعندما أتممنا تدعيمه ازداد الأمر سوءًا. وأتذكّر يومًا كيف كنّا أنا وصديقي تاراسوك نتسلّق إحدى الدعامات. صاحت بنا جدّتي: "لا تتسلّقا الدعامة أيّها الشيطانان الصغيران، وإلّا هدمتما الكوخ." ذهبت وتاراسوك إلى الفناء لنصطاد العصافير. كنت جريئًا لا يثنيني شيء؛ أمسكت بالسياج وقفزت فوقه بالكامل. ثمّ أمسكت بعصًا بكلتا يديّ، وأردت أن أتسلّق أكثر - انكسرت العصا وهويت رأسًا على عقب. صدف أن كان هناك عمود ملقى هناك. عندما سقطت ارتطم خدّي به مباشرة، وصرخت بأعلى صوتي. وما زالت الندبة من ذلك السقوط على خدّي حتّى الآن.

كان الفناء مزدحمًا، ومفتوحًا من طرف واحد، تتناثر فيه أكوام من القشّ المتعفّن هنا وهناك. لم يكن في الفناء سوى حصانٍ عجوز ٍأعرجَ بائس. لم يكن لدينا بقرة؛ بل نعجتان مزريتا الحال وحمَلٌ واحد. كنت أنام دائمًا مع ذلك الحمَل؛ كان يلطّخني بالدهن. كنّا نأكل الخبز الجافّ ونشرب الماء؛ لم يكن لدينا من يقوم بالعمل؛ كانت أمّي حاملًا، وظلّت تشكو من بطنها. كانت جدّتي دائمًا بالقرب من الموقد، وكان رأسها يؤلمها باستمرار. الوحيدة الّتي كانت "تعمل" هي أختي، وذلك لم يكن لصالح العائلة، بل لحسابها الخاصّ - كانت تشتري لنفسها ملابس جميلة وتستعدّ للزواج. أمّا أبي، فكان الأمر واضحًا؛ كلّ ما كان يكسبه كان ينفقه على الشراب.

أتذكّر مجيء العجوز نيفيد إلينا _شيخ القرية_ وبدأ يلعن أبي لسبب ما. سمعت نيفيد يقول: "الجميع دفعوا أموال الضرائب؛ أنت الوحيد الّذي لم يدفع. عليك أن تخاف على نفسك يا غورديوشكا! يا فتى، سيتمّ عقد الاجتماع وسيرسلونك إلى الجنديّة!" سمعته يذكر الوسائد. وكنت حزنت لمّا علمت أنّهم سيطلقون النار على أبي. خطفت وسادتي الخاصّة، ووضعتها على ركبتي الشيخ وقلت: "ها هي، هذه وسادة، فقط لا ترسل أبي ليكون جنديًّا." انفجر الجميع ضاحكين. قال الشيخ: "أترى، يا غوردي، كلّ ما تكسبه تنفقه على الشراب، لكنّ ابنك يهتمّ بك لدرجة أنّه سيتخلّى حتّى عن وسادته الأخيرة من أجلك." رفع أبي يده، وخرج إلى الفناء. وقالت جدّتي للشيخ: "هذا بالضبط ما يريده؛ أن يترك أسرته وبيته، ثمّ لا يفكّر في أيّ شيء."

لم يكن أبي خائفًا على الإطلاق وأتذكّر أنّه استمرّ في الذهاب إلى الحانة. بعد شهر، دعا الشيخ لاجتماع في القرية. جاء الكثير من الناس إلى فنائنا، وبدأ الناس يصيحون بشيء ما. "يجب إرساله ليكون جنديًّا". كانت أمّي تقف بجانب الناس، تبكي. ذهبت إليها وسألتها: "أمّي، لماذا تبكين؟"

احتضنتني أمّي، وبدأت تبكي بحرقة أكبر، وقالت: "لا لن تأسف عليه، وهم يريدون إرساله ليكون جنديًّا."

ثمّ أرسلوا العجوز يفيم ليأتي بأبي. فأتى به يفيم العجوز ثملًا. سألتُ: "أمّي، ماذا سيفعل هناك؟"

أجابت أمّي: "سيطعنه الجنود بالحراب."

شعرت بأسى عميق. أصابني الهلع وبدأت أبكي. نظر العجوز نيفيد إلى أبي وسأل: "حسنًا، ما حكمك أنت عليه؟"

صاح الناس: "اجعلوه جنديًّا."

هزّ أبي يده إلى الأعلى مرّة أخرى وقال: "هذا بالضبط ما أحتاجه، فقط لا تنسوا ابني."

ثمّ جاءت عربة مقتربة نحونا؛ وضعوا أبي فيها وانطلقوا. تشبّثت أمّي برقبة أبي وبدأت تبكي. انطلقت العربة برفق؛ سارت أمّي وأخت أمّي أغافيا والمرأة العجوز تاتيانا خلف العربة، وكنّ جميعهنّ يبكين. كنت جالسًا على ركبتي أبي. هكذا وصلنا إلى الكنيسة؛ صلّى أبي والأقارب، وأنزلني من العربة. ودّعنا بعضنا؛ انفجرت أمّي والأقارب في البكاء، وظلّوا ينوحون طول الطريق.

وهكذا عدنا إلى المنزل؛ كانت جدّتي جالسة بجانب النافذة تبكي، وارتمت أمّي على مقعد، واستمرّت في النحيب حتّى وقت الغداء. بدأت جدّتي تهدّئ أمّي وقالت: "كفى الآن يا ماتريونا. ماذا يمكنك أن تفعلي حيال ذلك؟" - لكنّها كانت تتنهّد هي نفسها - "يبدو أنّها مشيئة اللّه. بعد كلّ شيء، أنت ما زلت شابّة؛ قد يعيده اللّه إليك مرّة أخرى. أمّا في سنّي، فأنا دائمة المرض، وفي وقت قصير سأموت."

قالت أمّي: "آه يا أمّي! أشعر بسوء شديد! أشعر بسوء شديد!" وانفجرت في البكاء.

وقالت جدّتي: "حسنًا، ماذا يمكننا أن نفعل الآن؟ لا يمكن استعادته كما تعلمين!"

كانت أختي جالسة تبكي أيضًا بجانب العتبة؛ كانت عيناها قد احمرّتا من الدموع.

وهكذا بدأنا حياة فقيرة بائسة، أسوأ ب ثلاث مرّات ممّا كانت عليه عندما كان أبي هنا - لا شيء نأكله، بيعت الأغنام لشراء الخبز، وباعوا حملي الجميل الصغير؛ كلّ ما تبقّى لنا هو الفرس العرجاء، وقد كسرت ساقها.

بعد إرسال أبي إلى الجنديّة بشهر وضعت أمّي طفلًا. خرجت جدّتي لإحضار امرأة اقترضت الأخيرة البعض الحبوب من والد زوجها، وأرسلت ابنها لإحضار كاهن. ثمّ أشعلت الموقد، وبدأت في طهي العصيدة. ذهبت أختي لجمع الناس لحفل التعميد. أحضرت الناس ورغيف خبز منزليّ لكلّ واحد، وجلسوا على المقاعد. بدأ أقاربنا في وضع الطاولات وتغطيتها بالمفارش. كان كلّ شيء جاهزًا، وتمّ نصب المقاعد. جلسنا جميعًا في أماكننا؛ وصل الكاهن وقرأ من كتاب. ناولوه الصبيّ إليه ووضعوا حوضًا من الماء. فجأة غمس الصبيّ في الماء.

ظننت أنّه أراد إغراقه فصرخت: "أعطني الصبيّ!"

لكنّ جدّتي تظاهرت بأنّها ستضربني وقالت: "لا تصرخ وإلّا سيضربك!"

صمتّ. وغمسه ثلاث مرّات، ثمّ أعطاه للعمّة أكيلينا.

لفّته عمّتي في الشاش وأعطته لأمّي.

ثمّ جلسنا جميعًا إلى المائدة؛ وضعت جدّتي وعاءين من العصيدة على المائدة وقدّمتهما للناس. عندما شبع الجميع، نهضوا من المائدة، شكروا جدّتي وغادروا جميعًا.

ذهبت إلى أمّي وسألتها: "أمّي، ما اسمه؟" أجابت أمّي: "اسمه هو اسمك."

كان الصبيّ نحيفًا؛ كانت له أرجل صغيرة هزيلة، وظلّ يصرخ باستمرار. قالت أمّي: "يا ربّ، متى سيموت هذا الصغير؟"

مرّ أسبوع. قالت جدّتي: "الحمد للّه انتهى التعميد." لكنّ حالة الصبيّ كانت تزداد سوءًا باستمرار.

في جوف الليل، انخرطت أمي في البكاء لسبب ما. نهضت جدتي متسائلة: "ما الخطب؟ ليحفظك المسيح!"

أجابت أمي بصوت متهدج: "لقد فارق ابني الحياة."

أضاءت جدتي المصباح، ثم غسلت الصبي بتأنٍ، وألبسته قميصًا، ولفته برفق، ووضعته تحت الأيقونات بخشوع. عند بزوغ الفجر، مضت جدتي إلى دار العجوز نيفيد لإخباره. حضر العجوز نيفيد حاملًا بعض الألواح الخشبية، وشرع في صنع تابوت صغير. ما إن أتم صنعه، حتى وضع الصبي فيه بعناية. جلست أمي إلى جواره، وبدأت تنوح وتعول بصوت شجي، واستمر نحيبها زمنًا طويلًا. ثم حمل العجوز نيفيد الصبي ومضى به للدفن.

لم تعرف عائلتنا الفرح إلا عندما زفّفنا أختي. وُجد لها زوج يدعى كوندراشكا. جاؤوا لخطبتها حاملين رغيفًا من الخبز الأبيض وكمية وافرة من الفودكا. تحلق الجميع حول المائدة، بمن فيهم أمي. صب العجوز إيفان بعض الفودكا في كأس وقدمها لأمي، فتجرعتها. ثم قطع شريحة من الخبز وناولها إياها.

كنت واقفًا بجوار المائدة، وقد استبد بي الجوع وتقت نفسي إلى قطعة خبز. انحنيت على أمي وهمست في أذنها. ضحكت أمي، فسأل العجوز إيفان: "ماذا يريد الصبي، أيريد قطعة خبز؟" ثم ذهب وقطع لي شريحة كبيرة. أخذت الخبز وانسحبت إلى غرفة المؤن.

عاد العجوز إيفان ليصب المزيد من الفودكا في كأس ويقدمها لأمي. اعتذرت أمي قائلة: "لا، يكفيني ما شربت."

لكن العجوز إيفان ألح عليها، فأخذت الكأس وشربتها على مضض. بعد انصراف الجميع، قال العجوز إيفان: "حسنًا، سنبدأ غدًا."

أجابت أمي: "حسنًا"، ثم غادر إلى منزله.

استيقظت باكرًا في صباح اليوم التالي، فرأيت أختي وقد تزينت بأحذيتها الجديدة ومنديل أنيق ومعطف فرو جديد. كانت أمي أيضًا ترتدي ثيابًا جميلة وهي منهمكة في إشعال الموقد، بينما كانت أم كيريوشكا تغسل لحم البقر. ما إن دفئ الكوخ حتى توافد الكثير من الناس لزيارتنا، حتى امتلأ البيت عن آخره. ثم لمحت ثلاث عربات ترويكا تقترب، وفيها العريس كوندراشكا مرتديًا قفطانًا جديدًا وقبعة طويلة، وقد قاد مباشرة إلى فنائنا. ترجل العريس من العربة فور وصوله ودلف إلى الكوخ. أخرجوا أختي، فأمسك العريس بيدها. أجلسوهما على المائدة، وشرعت النسوة في إلقاء التهاني والتبريكات، واستمر ذلك وقتًا طويلًا. ثم غادروا المائدة، وصلوا، وخرجوا إلى الفناء متجهين نحو العربات. أركب كوندراشكا أختي في إحدى العربات، وركب هو في أخرى. وما إن اتخذ الجميع مواضعهم حتى صلّبوا بخشوع وانطلقوا.

خرجت إلى الشارع أرقب المشهد؛ انطلقت العربات مسرعة نحو الكنيسة حتى غابت عن الأنظار. عدت إلى الكوخ، فناولتني أمي قطعة خبز. جلست بجوار النافذة أترقب عودتهم، وسألت: "أمي، متى ستعود أختي؟" وفجأة سمعت صوتًا يصيح: "ها هو موكب الزفاف قادم!"

غمرتني السعادة، فهرعت إلى الخارج لأشهد المشهد؛ رأيت حشدًا من الناس واقفين قرب الشرفة يرددون أغنية تقول: "لِمَ طال غيابكم كل هذا الوقت؟" ثم دلف الموكب إلى الفناء مرة أخرى. ترجل العريس وساعد أختي على النزول، ثم دخلا الكوخ معًا. كانوا على وشك الجلوس إلى المائدة، لكن كان هناك بالفعل أناس جالسون حولها، وكنت أنا جالسًا هناك ممسكًا بمدقة. صاح العم غيراسيم: "انهض عن المائدة، يا صغير!"

انتابني الخوف ورغبت في الفرار. همست جدتي في أذني: "أره المدقة وقل له: 'ما هذه هنا؟' وسيعطيك بعض النقود."

هدد غيراسيم: "سأضربك بسوطي!" فرددت بجرأة: "وأنا سأضربك بالمدقة!"

ابتسم غيراسيم، ثم صب كأسًا من الفودكا، ووضع فيه بعض النقود وناولني إياه. تجرعت الكأس بأكمله وأخرجت النقود، ثم أخذت أقدم الفودكا للجميع؛ فنهض الآخرون وجلس العروسان.

بدأ الحاضرون في الغناء والرقص. قدمت لي أمي بعض لحم البقر. ثم ناولوا عمي غيراسيم كأسًا من الفودكا. ارتشف منه قليلًا وقال: "إنه مر المذاق!"

أمسكت أختي بأذني كوندراشكا، وتبادلا القبلات. استمر الغناء والاحتفال لساعات طويلة. وعندما انتهى كل شيء، وغادر الضيوف، اصطحب العريس أختي إلى منزلهما الجديد. تنهدت أمي بحزن وقالت: "والآن، ها قد انتهى أمرنا وبتنا في عوز!"

مر عام كامل؛ لم يكن لدينا ما يكفي من الطعام. اضطرت أمي للذهاب إلى شيخ القرية متوسلة بعض الدقيق، فكانوا يمنحوننا كل شهر ما يقارب ثمانين رطلًا من الدقيق. بعد مضي نصف عام، بدأت صحة جدتي تتدهور بشدة. رقدت على فراشها وهي تردد: "الآن لن أرى غوردي ثانية أبدًا." وظلت تذرف الدموع. ثم كانت تقول: "ليكن الله في عونه"، وتوصي أمي قائلة: "إذا عاد - والله أسأل - فلا تتشاجري معه."

بعد شهر، فارقت جدتي الحياة؛ لم يبق سوى أمي. وضعوا جدتي تحت الأيقونات؛ جلست أمي بجوارها، منخرطة في البكاء. أتذكر أمي وهي تنتحب بجانب جدتي قائلة: "يا أمي الحبيبة، من سيرعى طفلك البائس الآن؟ ماذا عساي أن أفعل؟ كيف لي أن أتدبر أموري؟ كيف سأعيش بقية حياتي؟" واستمرت أمي في النحيب هكذا لوقت طويل.

أحضروا تابوتًا، وشرعوا في وضع جدتي فيه. استُدعي الكاهن، فحضر وتلا قداس الموتى، ثم حُملت للدفن. رافقتها أمي، تذرف الدموع طوال الطريق. وحين عادت بعد دفن جدتي، لاحظت شحوب وجهها الشديد. لم يبق سوانا، أنا وأمي، نعيش في فقر مدقع لفترة طويلة.

مرت ست سنوات منذ أن أُرسل أبي ليكون جنديًا؛ كنت قد بلغت الثانية عشرة من عمري.

في أحد الأيام، أرسلتني أمي لإطعام فرسنا العرجاء. بقيت أراقبها لوقت طويل. كان الجنود يمرون بالقرب مني. فجأة، لمحت جنديًا يشبه أبي يقترب؛ دنا مني وسأل: "من أي قرية أنت يا فتى؟" أجبته: "من ياسنايا."

"حسنًا، هل تعرف امرأة تدعى ماتريونا شينتياكوفا؟" قلت: "نعم."

"ألم تتزوج بعد؟"

"لا."

ثم سألته بلهفة: "وهل رأيت أبي في الجيش؟ اسمه غوردي شينتياكوف."

"نعم، رأيته. كنا في الفوج نفسه، وكان الكولونيل يعامله بقسوة بالغة." ما إن سمعت ذلك حتى اعتصر قلبي ألمًا وانهمرت دموعي. لاحظت حينها أن عيني الجندي أيضًا قد اغرورقتا بالدموع؛ بدأ يبكي معي. أخذته إلى منزلنا بسرعة. صلى وحيا الجميع قائلًا: "السلام عليكم." ثم خلع معطفه وجلس على الصندوق، وبدأ يتفحص كل شيء في المكان بدقة. سأل: "أهذه كل عائلتك؟"

أجابت أمي بصوت خافت: "نعم، هذا كل ما تبقى لنا."

عندها، انفجر الجندي باكيًا وسأل: "أين أمي إذن؟" هرعت أمي نحوه وقالت بحزن: "رحلت أمك منذ زمن طويل يا غوردي."

ركضت نحو أبي وبدأت أقبله بشوق. كان أبي يبكي، لكنني رغم ذلك بدأت أفتش بفضول في كل ما كان في حقائبه وجيوبه. عثرت في حقيبته على ميداليتين جميلتين، فأخفيتهما داخل قميصي. بدأ الجيران يتوافدون ليحيوا أبي ويقبلوه. توقف أبي عن البكاء ونظر إلى وجوههم محاولًا التعرف عليهم. ثم دخلت أختي وقبلت أبي. نظر إليها أبي متسائلًا: "من هذه الشابة الجميلة؟"

ضحكت أمي وقالت: "يا لك من رجل غريب! أنسيت ابنتك؟"

دعاها أبي إليه مرة أخرى، قبلها بحنان، ثم سأل أمي عن موعد زواجها.

أجابت أمي: "مضى على زواجها وقت طويل يا غوردي."

غادر الجميع إلى منازلهم، وبقيت أختي وحدها معنا. بدأت أمي تشعل الموقد لتحضر عجة البيض، وأرسلت أختي لإحضار زجاجة من الفودكا. عاد الجميع ووُضع المشروب على المائدة.

سأل أبي مستغربًا: "ما هذا؟"

أجابت أختي: "إنها فودكا من أجلك يا أبي."

هز أبي رأسه وقال: "لا، لقد أقلعت عن الشرب." ابتسمت أمي وقالت: "الحمد لله أنك تركت هذه العادة."

قُدمت العجة إلى المائدة. تلا أبي دعاء قصيرًا ثم جلس ليأكل. جلستُ بجانبه؛ فيما جلست أختي على الصندوق، ووقفت أمي قرب المائدة تتأمل أبي وهي تقول بدهشة: "يا للعجب، يبدو أنك قد صرت أصغر سنًا! لم تعد لك لحية."

ضحك الجميع على هذه الملاحظة. وبعد أن انتهينا من العشاء، قبّلت أختي أبي مرة أخرى ثم عادت إلى منزلها. بدأ أبي يفتش في حقيبته، وأمي وأنا نراقبه بفضول. فجأة، لمحت أمي كتابًا بين أغراضه فسألته بدهشة: "أتعلمت القراءة يا غوردي؟"

أجاب أبي بفخر: "نعم، تعلمت."

ثم أخرج أبي رزمة كبيرة وناولها لأمي. سألت أمي بحيرة: "ما هذا؟"

قال أبي ببساطة: "مال."

فرحت أمي فرحًا شديدًا، وأسرعت لتخبئ المال في مكان آمن. ثم عادت وسألته بفضول: "من أين حصلت عليه يا غوردي؟"

أجاب أبي: "كنت ضابطًا وكان معي مال الجيش. وزعته على الجنود وبقي بعضه فأخذته معي."

غمرت السعادة أمي حتى أنها أخذت تتحرك في أنحاء الكوخ بنشاط غير معهود. كان النهار قد انقضى؛ وبدأ الظلام يخيم على المكان. أضاءت أمي المصباح. تناول أبي الكتاب وشرع في القراءة. جلست بجانبه أصغي باهتمام، فيما كانت أمي تسلط ضوء المصباح على الصفحات. استمر أبي في القراءة لوقت طويل.

حان وقت النوم. استلقيت على المصطبة الخلفية بجوار أبي، واستلقت أمي عند أقدامنا. ظل أبي وأمي يتحدثان بصوت خافت لفترة طويلة، حتى قاربت الساعة منتصف الليل. ثم غرقنا جميعًا في نوم عميق.

في الصباح الباكر، نهضت أمي وتوجهت نحو أبي قائلة: "هيا انهض يا غوردي، نحتاج إلى حطب للموقد." نهض أبي، ارتدى حذاءه وقبعته ثم سأل: "هل لديكم فأس؟"

أجابت أمي: "نعم، لكنه متآكل الحد. ربما لن يصلح للقطع."

أمسك أبي الفأس بكلتا يديه بقوة، اقترب من كتلة الخشب، وضعها في وضع قائم وضربها بكل قوته فانشطرت إلى نصفين. قطّع الحطب وأحضره إلى الكوخ. شرعت أمي في إشعال الموقد؛ ملأته بالحطب حتى اشتعلت فيه النار بقوة. وحين توهجت النيران بشكل جيد، نادى أبي:

"ماتريونا!"

اقتربت أمي منه وسألت: "ما الأمر يا غوردي؟"

قال أبي: "أفكر في شراء بقرة، وخمسة حملان، وحصانين، وكوخ جديد - فهذا الكوخ يكاد ينهار كما ترين - سيكلف كل هذا حوالي مئة وخمسين روبلًا."

بدت أمي مترددة للحظات، ثم قالت: "ولكن بهذه الطريقة سننفق كل المال."

أجاب أبي بثقة: "سنعمل بجد."

وافقت أمي قائلة: "حسنًا، لنشترِ ما ذكرت. ولكن دعني أخبرك - من أين سنحصل على الأخشاب لبناء الكوخ؟"

سأل أبي: "أليس لدى كيريوخا بعض الأخشاب؟"

أجابت أمي بأسف: "هذا هو المشكل، فهو لا يملك أي أخشاب. لقد استولى آل فوكانيتشيف على كل شيء."

فكر أبي للحظات ثم قال: "حسنًا، سنحصل على الأخشاب من بريانتسيف."

ردت أمي بشك: "أشك في أن لديه أيضًا. وحتى إن كان لديه، فسيطلب ثمنًا باهظًا. احذر منه، فهو محتال ماهر."

قال أبي بحزم: "بالطبع سيكون لديه، فهو يعمل في غابات الدولة."

حذرت أمي: "أخشى أن يطلب الكثير. كن حذرًا، فهو نصاب حقيقي."

فكر أبي قليلاً ثم قال: "سأذهب إليه ومعي بعض الفودكا وأتفاوض معه. وأنتِ، اخبزي لنا بيضة في الرماد للغداء."

أعدت أمي وجبة غداء شهية، مستعينة ببعض المكونات التي استعارتها من الجيران. أخذ أبي زجاجة الفودكا وانطلق لمقابلة بريانتسيف، بينما بقينا في المنزل ننتظر عودته. مر الوقت ببطء، وبدأت أشعر بالملل في غياب أبي. طلبت من أمي السماح لي بالذهاب خلف أبي، لكنها رفضت قائلة: "ستضيع في الطريق." بدأت في البكاء محاولاً الخروج، فضربتني أمي. جلست على الموقد وازداد بكائي.

فجأة، رأيت أبي يدخل الكوخ ويسأل: "لماذا تبكي يا فيدكا؟"

أجابت أمي: "أراد فيديوشكا أن يلحق بك، فضربته."

اقترب أبي مني وسأل بحنان: "ما الذي يبكيك يا بني؟"

بدأت أشكو من أمي. توجه أبي نحو أمي وتظاهر بأنه سيضربها، وهو يردد: "لا تضربي فيدكا! لا تضربي فيدكا!" تظاهرت أمي بالبكاء. جلست على ركبة أبي، وقد غمرتني السعادة.

جلس أبي إلى المائدة، وأجلسني بجانبه ونادى: "هيا يا ماتريونا، قدمي لي ولفيدكا الغداء؛ نحن جائعان."

قدمت لنا أمي لحم البقر، وبدأنا في تناول الطعام. بعد أن انتهينا من الغداء، سألت أمي: "حسنًا، ماذا عن الأخشاب؟"

أجاب أبي: "خمسون روبلاً فضية."

علقت أمي: "هذا ليس بالكثير."

أكد أبي: "نعم، لا شك في أنه إطار ممتاز."

مرت الأيام، وبدأنا في إعادة بناء حياتنا. اشترى أبي البقرة والحملان والحصانين كما وعد. بدأنا في بناء الكوخ الجديد، وكان الجيران يأتون لمساعدتنا. كنت أراقب كل شيء بفضول، أساعد قدر استطاعتي في الأعمال الصغيرة.

في إحدى الليالي، وبينما كنا جالسين حول المائدة نتناول العشاء، قال أبي: "تعرفون، لقد تعلمت الكثير في الجيش. ليس فقط القراءة والكتابة، بل أيضًا كيف أكون رجلاً أفضل."

نظرت إليه أمي بعينين دامعتين وقالت: "نحن فخورون بك يا غوردي. لقد عدت إلينا رجلاً جديدًا."

ابتسم أبي وأضاف: "وسنبني حياة جديدة معًا. سنعمل بجد، ونعلم أطفالنا، ونساعد جيراننا. هذه هي الحياة التي أردتها دائمًا لنا."

في تلك اللحظة، شعرت بدفء غريب يملأ قلبي. نظرت إلى وجوه عائلتي المجتمعة حول المائدة، ورأيت الأمل والسعادة تشع من عيونهم. أدركت أن حياتنا، رغم كل الصعاب التي مررنا بها، قد بدأت فصلاً جديدًا مليئًا بالوعود والإمكانيات.

وهكذا، انتهت قصة زوجة الجندي، أو ربما كانت هذه مجرد البداية لقصة جديدة - قصة عائلة اجتمعت من جديد، وبدأت في بناء مستقبل أفضل، مستقبل مليء بالحب والأمل والعمل الجاد.

بدت أمي مترددة للحظات؛ ثم قالت: "إذن سننفد من المال."

قال أبي: "سنعمل."

قالت أمي: "حسنًا، سنشتري كل هذا، ولكن دعني أخبرك - من أين نحصل على الإطار الخشبي؟"

سأل أبي: "أليس لدى كيريوخا واحد إذن؟"

أجابت أمي: "هذه هي المشكلة، فهو لا يملك. لقد استولى آل فوكانيتشيف على كل شيء."

فكر أبي للحظة وقال: "حسنًا، سنحصل على واحد من بريانتسيف."

قالت أمي: "أشك في أن لديه واحدًا أيضًا."

قال أبي: "بالطبع سيكون لديه، فهو من الغابة الحكومية."

قالت أمي: "أخشى أنه سيطلب الكثير. احذر، إنه محتال ماهر."

قال أبي: "سأذهب وآخذ معي بعض الفودكا وأتحدث معه. وأنتِ اخبزي لنا بيضة في الرماد للغداء."

أعدت أمي وجبة غداء لطيفة؛ استعارت بعض المكونات من أقاربها. ثم أخذ أبي بعض الفودكا وذهب لرؤية بريانتسيف، وبقينا نحن وجلسنا ننتظر لفترة طويلة. شعرت بالملل دون أبي. بدأت أطلب من أمي أن تدعني أذهب حيث ذهب أبي. قالت أمي: "ستضيع." بدأت أبكي وحاولت المغادرة، لكن أمي ضربتني، فجلست على الموقد وبكيت أكثر. ثم رأيت أبي يدخل الكوخ ويقول: "لماذا تبكي؟"

قالت أمي: "أراد فيديوشكا أن يركض خلفك، فضربته."

اقترب أبي مني وسأل: "لماذا تبكي؟"

بدأت أشكو من أمي. ذهب أبي إلى أمي وبدأ يضربها، أو تظاهر بذلك على أي حال، وهو يقول: "لا تضربي فيدكا! لا تضربي فيدكا!" تظاهرت أمي بالبكاء. وجلست على ركبة أبي وكنت سعيدًا.

ثم جلس أبي إلى المائدة وأجلسني بجانبه وصاح: "والآن يا أمي، قدمي لي ولفيدكا الغداء؛ نحن جائعان."

فقدمت لنا أمي لحم البقر، وبدأنا نأكل. انتهينا من الغداء، وقالت أمي: "حسنًا، ماذا عن الإطار؟"

قال أبي: "خمسون روبلاً فضية."

قالت أمي: "هذا ليس بالكثير."

قال أبي: "نعم، لا شك في أنه إطار من الدرجة الأولى."

النهاية

ترجمة عن الترجمة الإنجليزيّة لآلان بيتش (تولستوي 1982: 262-70)

أدركتُ أنه منذ ذلك اليوم قد انفتح أمامه عالم جديد من المسرات والمعاناة - عالم الفن.

(تولستوي 1982: 227)

"من الأجدر بتعلم الكتابة: نحن أم أطفال الفلاحين؟" هذا هو العنوان المثير للجدل لمقال كتبه تولستوي عام 1862 (1982: 222-247). يمثل هذا المقال ذروة اهتمام تولستوي العابر، لكن الشغوف، بالتعليم بين عامي 1859 و1862. كانت تلك فترة حاسمة في حياة تولستوي. فقد أصابه السخط من كتاباته الخاصة، إن لم يكن من الأدب بشكل عام، كما ساوره الشك حول مدى التزامه السياسي في ظل التحرير الوشيك للأقنان. كان رده الانسحاب إلى ضيعة عائلته في ياسنايا بوليانا، حيث انشغل بإدارتها وافتتاح مدرسة مجانية لأطفال الفلاحين من القرية والقرى المجاورة. افتُتحت المدرسة في منزل تولستوي خريف عام 1859. وبحلول مارس 1860، بلغ عدد تلاميذها نحو 50 طفلاً، وسرعان ما أصبحت "الاهتمام الوحيد الذي يربطني بالحياة" (مود 1929: المجلد 1، 250). انقطع تولستوي عن التدريس صيف 1860 حين غادر ياسنايا بوليانا في جولة أوروبية، جزئياً لزيارة أخيه المحتضر وجزئياً بحثاً عن أفكار تعليمية وأحدث أساليب التدريس. وعند عودته إلى وطنه ربيع 1861، استأنف التدريس بحماس متجدد.

تقدم رسالة إلى قريبته البعيدة ومستشارته، الكونتيسة أ. أ. تولستايا، صورة شاعرية للمدرسة آنذاك:

"لدي أيضاً مهنة ساحرة وشاعرية لا أستطيع الابتعاد عنها، وهي المدرسة. حين أنفك عن مكتبي والفلاحين الذين يلاحقونني من كل ركن في المنزل، أذهب إلى المدرسة؛ ولكن بما أنها تخضع للتجديد، تُعقد الفصول بجوارها، في الحديقة تحت أشجار التفاح الكثيفة لدرجة أنك لا تستطيع الوصول إليها إلا منحنياً. يجلس المعلم هناك محاطاً بالأطفال، يقضمون سيقان العشب، ويجعلون أوراق الزيزفون والقيقب تطقطق. يُدرِّس المعلم وفقاً لنصيحتي، لكنه حتى الآن ليس بارعاً جداً والأطفال يدركون ذلك. إنهم أكثر ميلاً إلي. فنبدأ في الدردشة لمدة 3 أو 4 ساعات دون أن يشعر أحد بالملل. يستحيل وصف هؤلاء الأطفال - يجب رؤيتهم. لم أر مثلهم من قبل بين أطفال طبقتنا المرموقة. تخيل فقط أنه في عامين، في غياب تام للانضباط، لم يُعاقَب أي فتاة أو صبي. لا وجود مطلقاً للكسل، أو الفظاظة، أو النكات السخيفة، أو اللغة غير اللائقة. اكتمل بناء المدرسة الآن تقريباً. تحتل المدرسة ثلاث غرف كبيرة - واحدة وردية واثنتان زرقاوان. إحدى الغرف، علاوة على ذلك، هي متحف. على الرفوف المحيطة بالجدران، تُعرض الأحجار، والفراشات، والهياكل العظمية، والأعشاب، والزهور، وأدوات الفيزياء وغيرها. يُفتح المتحف للجميع أيام الأحد، ويقوم ألماني من يينا بإجراء التجارب. مرة في الأسبوع يُقام درس في علم النبات، فنذهب جميعاً إلى الغابة للبحث عن الزهور والأعشاب والفطر. أربعة دروس للغناء في الأسبوع وستة للرسم، وكل شيء يسير على ما يرام... من المفترض أن تكون الفصول من الساعة 8 إلى 12، ومن 3 إلى 6، لكنها تستمر دائماً حتى الساعة 2؛ لأنه يستحيل إقناع الأطفال بمغادرة المدرسة - إنهم يطلبون المزيد. في المساء، غالباً ما يبقى أكثر من نصفهم ويقضون الليل في الحديقة، في كوخ. في أوقات الغداء والعشاء، وبعد العشاء نحن - المعلمون - نتشاور معاً. أيام السبت نقرأ ملاحظاتنا لبعضنا البعض، ونستعد للأسبوع التالي."

(كريستيان 1978: المجلّد 1، 149)

في الرسالة ذاتها، يتحدث تولستوي عن مشروعه لإصدار مجلة تتناول شؤون المدرسة والتعليم بشكل عام. رأى في هذا المسعى فرصة لنشر أفكاره وإثارة نقاش حول التعليم الشعبي في روسيا. صدر من المجلة اثنا عشر عددًا على مدار عامي 1862 و1863. احتوت على سلسلة متميزة من المقالات حول النظريات التربوية، وتنظيم المدارس وأساليب التدريس، إلى جانب سرد حي لتجربة مدرسة ياسنايا بوليانا. رافق المجلة كتيبات ملحقة تضمنت كتابات الأطفال ومجموعة متنوعة من المواد التعليمية. غير أن المجلة، لخيبة أمل تولستوي الكبيرة، لم تحدث الصدى المأمول، وتعرضت للإهمال إلى حد كبير.

شكل فشل المجلة ضربة قاسية لتولستوي. وقد تزامن هذا مع أعبائه الثقيلة كحَكَم للسلام، مسؤول عن فض النزاعات بين الأقنان وأسيادهم السابقين، إضافة إلى مهامه كمعلم ومدير للضيعة وكاتب. كل هذا أثر سلبًا على صحة تولستوي. وفي أواخر مايو 1862، توجه إلى السهوب الروسية لتلقي العلاج. كانت تلك، عمليًا، نهاية المدرسة بالنسبة لتولستوي. عند عودته في يوليو، وقع في حب سونيا بيرز، وتزوجا في غضون شهرين. كان لهذا الزواج تأثير مدمر على المدرسة، كما وصف ذلك أحد تلاميذ تولستوي المفضلين، فيدكا، في مذكراته بعد سنوات عديدة:

"أقلقنا نبأ زواج ليف نيكولايفيتش. أدركنا أن المرح الذي كنا نستمتع به معه سينتهي. بعد زواجه، استمرت مدرستنا لفترة، لكنها لم تعد كما كانت. تولى التدريس بيوتر فاسيليفيتش وإيفان إيفانوفيتش وفلاديمير ألكسندروفيتش، لكن ليف نيكولايفيتش نفسه نادرًا ما كان يزورنا. بدأت المدرسة في الضعف. تناقص عدد التلاميذ تدريجيًا. خلال أشهر قليلة، لم يبق سوى نصف العدد الأصلي، أو حتى أقل. وسرعان ما تضاءل هذا العدد إلى النصف مرة أخرى. قلّ إشغال المقاعد. شعر التلاميذ المتبقون بالملل والكآبة. غادر التلاميذ من القرى والمناطق الأخرى. لم يبق سوى تلاميذ ياسنايا بوليانا، وحوالي عشرة منهم فقط. لا أتذكر ما إذا كانت مدرستنا قد استمرت لمدة عام كامل بعد زواج ليف نيكولايفيتش، لكنني أذكر أنها أُغلقت نهائيًا في عام 1863. لم أواجه في حياتي صعوبة تضاهي الانفصال عن مدرسة ياسنايا بوليانا وعن معلمنا ليف نيكولايفيتش."

(تولستوي 1982: 218)

لم يكن الزواج وحده سببًا في تراجع اهتمام تولستوي بالتعليم. فكما تشير مذكرات موروزوف: "في تلك الفترة، كان ليف نيكولايفيتش منهمكًا في كتابة عمل أدبي ضخم" (1982: 220). هذا العمل كان رواية "الحرب والسلام"، التي شرع في كتابتها خريف عام 1862. وبهذا، تبددت خيبة أمل تولستوي من الكتابة. بعد عام واحد، نظر إلى تجربته المدرسية بمزيج من الذهول والمودة:

"لم أشعر قط بقدراتي الفكرية، بل وحتى قواي الأخلاقية جميعها، بهذا القدر من الحرية والقدرة على العمل. ولدي مشروع أعكف عليه. إنها رواية عن عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، تستحوذ على كامل اهتمامي منذ الخريف. أيدل هذا على ضعف في الشخصية أم قوتها؟ أتأرجح في التفكير بين الاحتمالين - لكن علي الاعتراف بأن آرائي حول الحياة والناس والمجتمع قد تغيرت جذريًا عما كانت عليه آخر مرة التقينا فيها. قد نشفق عليهم، لكن يصعب علي أن أفهم كيف كان بإمكاني أن أحبهم بتلك الشدة. ومع ذلك، أنا ممتن لمروري بتجربة هذه المدرسة؛ فقد كانت هذه العشيقة الأخيرة ذات تأثير تكويني عميق علي. أحب الأطفال والتدريس، لكن يصعب علي فهم ذاتي كما كنت قبل عام. الآن أنا كاتب بكل ما أوتيت من قوة روحية، وأكتب وأفكر بطريقة لم أعهدها من قبل."

(كريستيان 1978: المجلد 1، 181)

إن قصر الفترة التي كرس فيها تولستوي نفسه للتدريس قد أقنع معظم الدارسين بأن مقالاته التربوية في ستينيات القرن التاسع عشر تكتسب أهميتها من الضوء الذي تلقيه على تطوره الأدبي الشخصي أكثر من أصالتها التربوية. في كتابه الكلاسيكي "تولستوي في الستينيات"، يصف الناقد الروسي الشكلاني بوريس إيخنباوم مقال "من الذي ينبغي أن يتعلم الكتابة من الآخر؟" قائلاً:

"إنه العمل الأكثر أهمية لتولستوي في هذه الفترة [أوائل الستينيات]. ارتباطه بعلم التربية واهٍ للغاية - فالعنوان نفسه موجه ليس إلى المعلمين، بل إلى الكتّاب. هنا لا تعني عبارة 'تعلم الكتابة' تعلم القراءة والكتابة، بل 'تعلم تأليف عمل أدبي'، وكلمة 'نحن' لا تشير إلى المعلمين، بل إلى الكتّاب. يتم هنا تحديد وصياغة أسس أسلوب تولستوي الفني الخاص. هذا ليس مقالاً عن التدريس، بل كتيب أدبي يحتوي بذور قصصه الفلاحية المستقبلية ورسالته عن الفن." (1982: 65)

بيد أن إيخنباوم، في قراءته لمقال تولستوي كمجرد لحظة حاسمة في عودة الكاتب إلى الأدب، قد أخطأ في تقديره. فمقال تولستوي يتجاوز كونه مجرد كتيب أدبي. من خلال إظهار أن قصص الأطفال يمكن قراءتها بشكل شرعي كتجليات متعددة للجمالية - أي كأعمال فنية قائمة بذاتها - يسعى تولستوي إلى إحداث ثورة في فهمنا لفكر الأطفال، والتطور المعرفي، وطبيعة التعليم والتعلم، وكذلك الأدب نفسه. يستكشف المقال موضوعًا واسع النطاق: الوعي الأدبي في مرحلة الطفولة، وتداعياته على التعليم، وبشكل أوسع على التفكير في الثقافة وتوارثها. إنه يتحدى ما لا يزال يُعتبر حكمة تقليدية حول نقل المعرفة، واكتساب مهارات القراءة والكتابة، وإدماج الأطفال في الثقافة. وعلى الرغم من محدودية انتشاره وبُعده الثقافي، إلا أنه يظل نقطة الانطلاق الطبيعية لأي نقاش حول الفكر السردي عند الأطفال.

"من الذي ينبغي أن يتعلم الكتابة من الآخر؟" مقال يروي قصّة قصّتين. نشأت الأولى كثمرة تعاون بين تولستوي وصفه الدراسي، بينما كانت الثانية عملاً مستقلاً نسبيًا لطفل بعينه. نُشرت القصتان بالفعل في الكتيبات المصاحبة لمجلة تولستوي الشهرية، الأولى بعنوان "يطعمك بملعقة ويطعنك في العين بمقبضها"، والثانية بعنوان "حياة زوجة الجندي". يستهل تولستوي مقاله بالاعتراف أنه لفترة طويلة بدا أن تلاميذه لا يكتبون سوى أمور تافهة: "وفقًا لميولهم، حددت لهم مواضيع دقيقة وفنية ومؤثرة ومضحكة وملحمية للمقالات - لكن الأمر لم ينجح" (1982: 223). كانت المشكلة بسيطة: "لم يفهموا الغاية الأساسية: لماذا نكتب؟ وما الجدوى من كتابة ذلك؟ لم يدركوا ماهية الفن - جمال التعبير عن الحياة بالكلمات والقوة الآسرة لهذا الفن" (1982: 223).

هكذا يطرح تولستوي إشكالية محو الأمية. فتعلم الكتابة يعني تعلم تأليف عمل أدبي. الغاية هي جوهر الأمر، والغاية السائدة هي الفن. من المثير للاهتمام مقارنة الطريقة التي يصف بها عالم النفس الروسي ليف فيغوتسكي تطور محو الأمية بعد نحو 70 عامًا. قرأ فيغوتسكي مقالات تولستوي التعليمية، وكان من بين القلة من منظري تطور الطفل الذين أخذوها على محمل الجد. ملاحظًا خيبة أمله من تفاهة كتابات الأطفال في مدرسة ماريا مونتيسوري في روما، يجادل بأن "الكتابة يجب أن تكون ذات معنى للأطفال، وأنه ينبغي إثارة حاجة جوهرية فيهم، وأن الكتابة يجب أن تُدمج في مهمة ضرورية ومناسبة للحياة. فقط عندها يمكننا أن نكون متأكدين من أنها ستتطور كشكل جديد ومعقد حقًا من الكلام" (فيغوتسكي 1968: 118). بالنسبة لتولستوي، حتى وهو يائس من مستقبل كتاباته الخاصة، لا توجد مهمة يمكن أن تكون أكثر ضرورة أو ملاءمة من الفن.

جاء اكتشاف الحساسية الفنية للأطفال وكيفية إثارتها، في النهاية، تقريبًا عن طريق الصدفة. كان تولستوي يقرأ في المنزل كتابًا عن الأمثال الروسية. "منذ زمن بعيد،" يكتب، "كانت قراءة مجموعة سنيغيريوف للأمثال واحدة من متعي المفضلة - وليست دراساتي. عند كل مثل، أجد نفسي أتخيل شخصيات من الناس، وصراعاتهم، التي يوحي بها معنى المثل. من بين أحلامي غير المحققة، كنت أتخيل دائمًا سلسلة، ليست من القصص بقدر ما هي صور، مكتوبة حول الأمثال" (1982: 223). وكعادة المعلمين الجيدين، شعر تولستوي بدافع لمشاركة حماسه مع تلاميذه:

"أحضرت الكتاب إلى المدرسة. كان درس اللغة الروسية.

'حسنًا إذن، لماذا لا يكتب أحدكم عن مثل؟' قلت. أصغى التلاميذ المتميزون - فيدكا، وسيومكا وآخرون - بانتباه شديد.

'ماذا تقصد، عن مثل؟ أخبرنا.' انهالت الأسئلة كالمطر. وقع اختيارنا على المثل 'يطعمك بملعقة، ويطعنك في العين بمقبضها'.

'والآن تخيلوا،' قلت، 'أن فلاحًا أخذ متسولاً إلى منزله ثم، لأسباب خاصة به، بدأ يعاتبه وينتهي به الأمر وهو يطعمه بملعقة، ويطعنه في العين بمقبضها.'

'ولكن كيف ستكتبها؟' سأل فيدكا، وكل الآخرين الذين كانوا على وشك الإصغاء باهتمام انصرفوا فجأة، بعد أن استنتجوا أن المهمة تفوق قدراتهم، وعادوا إلى أعمالهم السابقة.

'اكتبها أنت بنفسك،' قال لي أحدهم.

كانوا جميعًا منهمكين في عملهم؛ أخذت قلمًا ومحبرة وشرعت في الكتابة.

'حسنًا،' قلت، 'دعونا نرى من سيكتبها بشكل أفضل، سأشارك في الكتابة أيضًا.'"

(1982: 223)

بعد فترة، جاء فيدكا، الذي كان قد أنهى قطعة خاصة به، إلى تولستوي وبدأ يقرأ من فوق كتفه. تبعه أطفال آخرون، ووجد تولستوي أنه لا يستطيع المواصلة. توقف عن الكتابة، وبدأ يقرأ لهم ما كتبه. لم يعجب أحد. شعر تولستوي بالخجل. "من أجل تهدئة غروري الأدبي شرعت في إخبارهم بخطتي لما سيأتي،" يشرح (1982: 224). وفيما هو يفعل ذلك استعاد حماسه، وفي الوقت نفسه بدأ الأطفال في تقديم اقتراحاتهم الخاصة حول كيفية استمرار القصة. وقبل وقت طويل أصبحوا هم من يملون القصة، بينما تحول تولستوي إلى مجرد كاتب أكثر منه مؤلفًا مشاركًا.

أثار إعجاب تولستوي على الفور وضوح ودقة أحكام الأطفال وإخلاصهم لما فهموه من التجربة - وهو ما يسميه تولستوي اهتمامهم بـ "الحقيقة الفنية"

"كانت مطالبهم عفوية ودقيقة لدرجة أنني وجدت نفسي أجادلهم أكثر من مرة، واضطررت في النهاية للاستسلام. كنت قد ثبّت في ذهني بإحكام متطلبات البناء الصحيح والعلاقة السليمة بين معنى المثل والقصة؛ أما هم، على العكس من ذلك، فلم يطالبوا إلا بالحقيقة الفنية. أردت، على سبيل المثال، أن يندم الفلاح الذي أخذ الرجل العجوز إلى منزله على عمله الطيب - اعتبروا هذا أمرًا مستحيلاً، وابتكروا شخصية زوجة شرسة بدلاً من ذلك.

قلت، 'في البداية شعر الفلاح بالأسف على الرجل العجوز، وبعد ذلك بخل عليه بالخبز.'

رد فيدكا قائلاً إن ذلك سيكون غير متسق. 'لم يطع زوجته منذ البداية، ولن يستسلم فيما بعد أيضًا.'

'وما نوع الرجل الذي تتخيله؟' سألت.

'إنه مثل العجوز تيموفي،' قال فيدكا مبتسمًا، 'ذو لحية رقيقة، يذهب إلى الكنيسة ويربي النحل.'

'طيب القلب، ولكن عنيد،' قلت.

'نعم،' أكد فيدكا، 'لن يستمع إلى زوجته.'"

(1982: 224)

برز طفلان من بين المجموعة، سيومكا لوضوح صوره الموضوعية وفيدكا لقوة المشاعر الكامنة وراء تصويراته:

"بدا الأمر وكأن سيومكا كان يرى ويصف أشياء ماثلة أمام عينيه: الصنادل المصنوعة من لحاء الشجر المتيبسة والمتجمدة، والطين الذي تدفق منها عند ذوبانها، والقشور الجافة التي تحولت إليها عندما ألقتها المرأة في الموقد. أما فيدكا، من ناحية أخرى، فلم ير سوى تلك التفاصيل التي أثارت فيه الشعور الذي كان يكنه لشخصية معينة. لاحظ فيدكا الثلج الذي تسلل إلى لفائف قدم الرجل العجوز والشعور بالتعاطف الذي عبر عنه الفلاح قائلاً: 'يا إلهي! بماذا كان يمشي!' (أظهر فيدكا حتى كيف نطق الفلاح هذه الكلمات، باسطًا ذراعيه وهازًا رأسه.)" (1982: 225)

لاحظ تولستوي الجودة الأدبية المميزة لكتابة الأطفال، خاصة فيدكا. "أراد أن يعبر بنفسه - ليس بالطريقة التي يروي بها الناس القصص شفهيًا، ولكن كما يكتبون، أي تجسيد صور مشاعره فنيًا من خلال الكلمات" (1982: 226). رفض السماح لتولستوي بتغيير ترتيب كلماته، وكان يرفض أي اقتراح بدا له غير متناسب أو مصطنعًا أو زائدًا عن الحاجة. كان الأمر كما لو أنه يمتلك "حسًا فطريًا بالتناسب".

في نهاية اليوم، بقي سيومكا وفيدكا لمواصلة القصة مع تولستوي:

"عملنا من الساعة السابعة حتى الحادية عشرة؛ لم يشعروا بجوع ولا تعب، بل إنهم غضبوا مني عندما توقفت عن الكتابة. حاولوا الكتابة بأنفسهم بالتناوب، لكنهم سرعان ما تخلوا عن المحاولة، إذ لم تنجح. كان ذلك فقط عندما سأل فيدكا عن اسمي. انفجرنا ضاحكين لعدم معرفته به.

'أعرف،' قال، 'ماذا أناديك، ولكن ما هو اسم عائلتك؟ مثلما لدينا الفوكانيتشيف، والزيابريك، واليرميلين.'

أخبرته.

'وهل سننشرها؟' سأل. 'نعم!'

'إذن ينبغي أن نضع في النشر: بقلم ماكاروف وموروزوف وتولستوي.'" (1982: 226)

غمرت تولستوي مشاعر متضاربة من الإثارة:

"لا أستطيع أن أصف،" يكتب تولستوي، "مزيج الإثارة والفرح والخوف وحتى الندم تقريبًا الذي اختبرته خلال تلك الأمسية. شعرت أنه منذ ذلك اليوم قد انفتح أمامه [فيدكا] عالم جديد من المسرات والمعاناة - عالم الفن؛ بدا الأمر كما لو كنت أتلصص على شيء لا يحق لأحد أن يراه أبدًا، ولادة الزهرة الغامضة للشعر. انتابني شعور بالخوف والفرح، كباحث عن كنز يرى فجأة زهرة على سرخس؛ غمرتني السعادة لأنه فجأة، وبشكل غير متوقع تمامًا، تم الكشف لي عن حجر الفلاسفة الذي كنت أبحث عنه عبثًا لمدة عامين - فن تعليم كيفية التعبير عن الأفكار؛ شعرت بالخوف لأن هذا الفن استدعى مطالب جديدة، عالمًا كاملاً من الرغبات التي لم تكن متوافقة مع البيئة التي عاش فيها التلاميذ، كما بدا لي في اللحظة الأولى. لم يكن هناك شك في الأمر. لم يكن صدفة، بل إبداعًا واعيًا." (1982: 227)

مرارًا وتكرارًا، على امتداد المقال، يؤكد تولستوي أن إبداع الأطفال ليس محض صدفة. تتجلى أصالة رؤيته هنا بوضوح أكثر من أي موضع آخر. فهو أول مفكر حديث - من بين قلة نادرة - يدرك أن كتابة الأطفال، شأنها شأن جوانب أخرى من فنهم أو فكرهم بشكل عام، ليست خالية من الهموم ولا عفوية محضة، بل هي نتاج قصد واعٍ. "كل هذا بعيد كل البعد عن كونه عرضيًا،" يؤكد لنا، "في كل هذه اللمسات نستشعر قوة فنية واعية" (1982: 227).

كمثال على ذلك، يستشهد تولستوي بتفصيلة تبدو ثانوية في العمل النهائي. تدور القصة حول فلاح يأوي رجلًا عجوزًا وجدته زوجته راقدًا على عتبة الباب، متجمدًا من البرد. تغضب الزوجة عندما يبدأ زوجها في رعاية الرجل العجوز بدلًا من طرده. فتهرع إلى منزل جار لتتوسل إليه أن يتحدث مع زوجها بعقلانية. الجار متردد، وهو خائف قليلًا من الزوج، لكنه يوافق في النهاية. "ارتدى الجار معطف فرو نسائي،" تستمر القصة، "وانطلق قائلًا 'ربما سأقنعه بطريقة ما وإذا لم أستطع سأقول له رأيي وأنصرف'" (1982: 250). أدهش تولستوي أن فيدكا ذكر أن الجار ارتدى معطف فرو نسائي:

"أتذكر أنه صدمني كثيرًا لدرجة أنني سألت: 'لماذا معطف فرو نسائي؟' لم يكن أحد قد أوحى لفيدكا بفكرة قول أن الجار ارتدى معطف فرو.

قال 'هذا صحيح، إنه يشبهه.'

عندما سألت ما إذا كان بإمكاننا القول إنه ارتدى معطف فرو رجالي قال، 'لا، من الأفضل أن يكون نسائيًا.'" (1982: 227)

كلما تأمل تولستوي في اختيار فيدكا، كلما أصبح ذلك منطقياً أكثر:

هذه اللمسة غير عادية حقًا. لا يمكنك في البداية أن تفهم سبب كونه معطف فروٍ نسائياً، ومع ذلك تشعر أنه ممتاز وأنه لا يمكن أن يكون إلاّ هكذا. تختلف كل كلمة في العمل الفني، سواء كانت من غوته أو من فيديكا، عن تلك غير الفنية من حيث كونها تستدعي عددًا لا يحصى من الأفكار والصور والتفسيرات. لا بد من تصور الجار الذي يرتدي معطفًا نسائياً من الفرو على أنه فلاح ضئيل الحجم وضيق الصدر، كما لا بدّ أن يكون. أما معطف الفرو الخاص بالمرأة، المنسدل على مقعد، وهو أول معطف وضع عليه يديه، يستحضر لك أيضاً حياة الفلاح بأكملها وحالاته في أمسية شتوية. وعن طريق معطف الفرو تتخيل تلقائيًا أيضًا الساعة التالية عندما يجلس الفلاح عاريًا في ضوء صادر عن قطعة خشب مشتعلة، كمصباح خشبي، ودخول المرأة وخروجها لتحضر الماء وتنظف حظائر الماشية، وكل فوضى حياة الفلاحين الظاهرة حيث لا يمتلك أي شخص بشكل محدد أي ثوب بعينه، ولا يوجد شيء واحد له مكانه المحدد. من خلال هذه العبارة وحدها "ارتدى معطف فرو نسائي" يُحدّدُ الطابع الكامل للبيئة التي يجري فيها الحدث، ولا تُقالُ هذه العبارة مُصادفةً، ولكن عن وعي. (1982: 228)

لسنا بحاجة إلى قبول كل تفاصيل تفسير تولستوي حتى ندرك صحة حجته. هناك سبب للقول بأن تفسيرات تولستوي غالبا ما تميل إلى إضعاف قوة الاختيارات اللغوية للأطفال.  في نهاية الأمر لا يعتبر هذا مهماً. إن إصرار فيديكا، "لا، من الأفضل أن يكون لامرأة"، هو في حد ذاته دليل كافٍ على الدقة والنية.

في البداية، وجد تولستوي غرابةً في فهم تجربته:

لقد بدا لي الأمر غريبًا جدًا أن يُظهر صبي فلاح شبه متعلم فجأة مثل هذه القوة الفنية الواعية التي لم يكن غوته، في قمة تطوره، قادراً على الوصول إليها. لقد بدا لي غريبًا وغايةً في الإهانة أنني أنا -مؤلف كتاب "الطفولة"، ورغم تحقيقي نجاحًا معينًا وحصولي على تقدير لموهبتي الفنية من الجمهور الروسي المتعلم- لم أتمكن في مسألة فنية من توجيه أو تعليم  سيومكا او فيديكا البالغ من العمر أحد عشر عامًا فحسب، بل لم أتمكن حتى من متابعتهما وفهمهما، ولم يتسنّ لي ذلك  سوى في لحظة تحفيز سعيدة. وقد بدا هذا غريبًا جدًا بالنسبة لي لدرجة أنني لم أصدق ما حدث في اليوم السابق. (1982: 229)

من المغري أن نبتسم لمبالغات تولستوي، لكن مبالغته تعكس تجربة تعليمية مألوفة. من المستحيل الاهتمام بالفكر الإبداعي للأطفال دون التعرف على التحدي الذي يواجهه الفرد. اقترح إيخنباوم وآخرون أن تجربة تولستوي في التدريس كان لها تأثيرها على كتاباته اللاحقة، ليس فقط على قصص الفلاحين اللاحقة، بل حتى على الحرب والسلام نفسها. يفسر إيخنباوم هذا الأمر كدليل على أن تولستوي كان أقل اهتمامًا بالتدريس من اهتمامه بتطوره الأدبي. يمكننا أن نقترب من أهمية تجربة تولستوي إذا قلنا إنه في الوصول إلى فهم قصص الأطفال، وجد نفسه مضطراً لإعادة النظر في تجربته الخاصة.

لقد تم تبديد أية شكوك عالقة ربما كانت لدى تولستوي حول جودة وهدف كتابات تلاميذه من خلال تكملة تولستوية مميزة. ظلت القصة غير مكتملة في نهاية اليوم الأول. وفي اليومين الثاني والثالث، استمرت الكتابة ’ بنفس الشعور بالحقيقة الفنية والقياس ونفس الانهماك‘(تولستوي 1982: 230).

ثم اضطر تولستوي إلى الرحيل لبضعة أيام، وأثناء غيابه انتشر هوس جديد في الفصل بصناعة السجق الورقيّ. تم تحويل المخطوطة الثمينة إلى سجق، وعندما سئم الأطفال، بعد يوم أو يومين، من صنع السجق، جمعوها كلها وألقوها بحماس إلى الموقد المشتعل‘. وكما يقول تولستوي آسفاً، ’ كانت مرحلة السجق قد انتهت، لكن مخطوطتنا هلكت معها‘(1982:231).

 كان تولستوي في حالة من اليأس. أراد أن يبدأ قصة جديدة على الفور لكنه لم يستطع التغلب على إحساسه بالخسارة حتى اقترب منه فيديكا وسيومكا وعرضا عليه إعادة كتابة القصة الأصلية. زمجر تولستوي: ’ افعلوا ذلك بمفردكم، لن أساعدكم بعد الآن‘ (1982:231).

وصف تولستوي لبقية ذلك اليوم يأخذُ قصةَ أول قصةٍ للأطفال إلى نهايتها المبهرة:

وبالفعل، بعد الدرس، جاءوا إلى المنزل بين الساعة الثامنة والتاسعة، وحبسوا أنفسهم في غرفة الدراس، وهي حقيقة لم تمنحني الكثير من المتعة، وضحكوا لبعض الوقت، وصمتوا حتى الساعة الحادية عشرة، عندما ذهبت إلى الباب. لم أسمع إلا حديثهم الخافت مع بعضهم البعض وصرير الأقلام. تشاجروا مرةً واحدةً حول ما حدث أولاً وجاؤوا إليّ ليحتكموا: هل بحث عن الحقيبة قبل أن تذهب زوجته إلى الجار أم بعد ذلك؟ قلت لهم إن هذا لا يهم. بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة طرقت بابهم ودخلت. فيديكا، يرتدي معطفًا جديدًا من الفرو الأبيض موشحا بالسواد كان يجلس على كرسي بذراعين واضعًا إحدى ساقيه على الأخرى، ورأسه الشاب الأشعث مسند على يده ويلعب بالمقص في اليد الأخرى. كانت عيناه السوداوان الكبيرتان، اللتان تتألقان ببريق غير طبيعي، ولكنه جدي وبالغ، تحدقان في مكان ما في الفراغ؛ من الواضح أن شفتيه غير المنتظمتين، اللتين زمتا كما لو كان على وشك الصفير، كانتا تشكلان كلمة كان على وشك النطق بها بعد أن وقع عليها في خياله. كان سيومكا، واقفًا أمام طاولة الكتابة الكبيرة، وعلى ظهره قطعة بيضاء كبيرة من جلد الغنم (كان الخياطون قد وصلوا للتو إلى القرية)، ووشاحه مفككًا ورأسه أشعث، يكتب على الخطوط الملتوية، ويضرب القلم باستمرار في المحبرة. مسدتُ شعر سيومكا، بينما كان ينظر إلي، مذهولًا، بعينين نائمتين في حيرة، كان وجهه الممتلئ ذو الناتئة وشعره الشارد مضحكًا للغاية لدرجة أنني بدأت في الضحك، لكن الأطفال لم يبدأوا في الضحك. لمس فيدكا، دون أن يغير تعابير وجهه، كُمّ سيومكا، مما يعني أن عليه الاستمرار في الكتابة:

قال لي فورًا: "هييه أنتَ، انتظر لحظة" (يتحدث فيديكا معي بهذه الطريقة عندما يكون مستغرقًا ومتحمسًا)، وأملى عليه المزيد.

أخذت منهم دفتر التمارين، وبعد خمس دقائق، عندما كانوا جالسين حول الخزانة الصغيرة، يتناولون البطاطا ومشروب الكفاس بالتناوب، وينظرون إلى الملاعق الفضية، التي كانت رائعة في نظرهم، انفجروا، دون أن يعرفوا السبب وراء ذلك، في ضحك طفولي يرن كالجرس؛ وضحكت أيضًا المرأة العجوز التي كانت تستمع إليهم في الطابق العلوي دون أن تعرف السبب.

قال سيومكا: ’ على ماذا تضحك؟ اجلس منتصبًا وإلا فسوف تفقد توازنك‘.

وبينما كانوا يخلعون معاطفهم من الفرو ويتمددون تحت طاولة الكتابة ليناموا، لم يتمكنوا من إيقاف فورات ضحكاتهم الطفولية، الفلاحية، الصحية، الساحرة. قرأت من خلال ما كتبوه. لقد كان نسخة جديدة من الشيء نفسه. فُقِدَت بعض الأشياء، وأضيفت بعض الجمل الفنية الجديدة. ومرة أخرى نفس الشعور بالجمال والحقيقة والمستوى (1982: 231).

خلال الفترة المتبقية من العام الدراسي، لم يتمكن تولستوي من إجراء أي تجارب أخرى في تدريس القراءة والكتابة، "فن تعليم كيفية التعبير عن الأفكار". ولم تظهر فرصة جديدة إلا في العطلة الصيفية:

عاش فيديكا وبعض الأولاد الآخرين معي جزءاً من الصيف. بعد أن شبعوا من الاستحمام واللعب، فكروا في القيام ببعض العمل. اقترحت عليهم أن يكتبوا موضوعاً وأعطيتهم عدة مواضيع. أخبرتهم قصة مؤثرة للغاية عن سرقة أموال، قصة جريمة قتل معينة، عن كيف تحول مولوكيّ[1] بأعجوبة إلى العقيدة الأرثوذكسية، واقترحت أيضًا أن يكتبوا على شكل سيرة ذاتية قصةَ الصبي الذي أُرسل والده الفقير الفاسق ليكون جنديًا وعاد إليه والده رجلاً صالحًا وتائباً.

قلت: سأكتبها هكذا ’ أذكر عندما كنت صغيراً، كان لي أم وأب وغيرهم من الأقارب وما إلى ذلك. ثم أكتب أنني أتذكر كيف كان والدي يذهب في رحلة، وكانت والدتي تبكي دائمًا وكان يضربها؛ ثم كيف أرسلوه ليكون جنديًا، وكيف بكت وبدأنا نزداد سوءًا، وكيف عاد الأب وبدوت كأنني لم أتعرف عليه، وسألني عما إذا كانت ماتريونا على قيد الحياة – يقصد زوجته – وكيف فرحنا حينها وبدأنا نزدهر‘. هذا كل ما قلته لهم في البداية (1982: 233).

كان فيديكا مسرورًا بالموضوع وبدأ العمل على الفور. هذه المرة عمل بمفرده وتدخل تولستوي بشكل أقل على الرغم من أنه من الواضح من روايته أنه قدم عددًا من الاقتراحات خلال الجزء الأول من القصة، وهي التدخلات التي سارع إلى رفضها باعتبارها "مشجعة على الابتذال والفساد" (1982: 234).

 وبحلول الوقت الذي وصل فيه فيدكا إلى ذروة القصة، مع عودة الأب، كان قد نفد صبره من تعجّلِ معلمه، لا تقل شيئًا! أنا أعرف نفسي، أعرف! ‘ قال لي وبدأ بالكتابة، ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا كتب القصة بأكملها حتى النهاية في جلسة واحدة (1982:237).

تأخذ رواية تولستوي لقصة فيدكا شكل تفسير، قراءة للقصة مصممة لإظهار وتبرير الادعاءات التي قدمها بالفعل للوعي الأدبي للأطفال في وصف الطريقة التي تم بها تأليف القصة السابقة. إنه المثال الأقدم لنوع نادر في الأدب الأوروبي، هو القراءة الدقيقة للنص الأدبي للطفل. وبهذا، فهو لا يقل في طموحه عن أصالته. قد تبدو أحكام تولستوي في بعض الأحيان مبالغ بها أو إنه متسلط، لكن كل خلاف مع تفاصيل تفسيره يجبرنا على العودة إلى النص من أجل الكشف عن احتمالات جديدة لا تؤدي إلاّ إلى تعزيز الجدل العام. إنها لحظة فريدة في تاريخ الفكر التربوي. ما اقترحه تولستوي على تلاميذه لم يكن موضوعًا بقدر ما كان مثالًا للحبكة. إنه يتحدى فيديكا والآخرين لإضفاء الحيوية على القصة. يُظهر نفاد صبر فيديكا أنه اعترف بالتحدي وقبله.يحاول تولستوي، من خلال تفسير القصة التي كتبها فيديكا، فهم الطرق التي استخدم بها فيديكا الحبكة الموضحة للتعبير عن رؤيته المميزة. وكما كان من قبل، يجد تولستوي نفسه غارقًا في القوة الجمالية والأخلاقية لتلك الرؤية، على الرغم من كل بساطتها الواضحة.

تولستوي هو من أعطى القصة عنوانها، بعد أن أكملها فيديكا: حياة زوجة جندي. في الواقع، هذا هو أول عمل له في التفسير. وقد علق إيخنباوم وآخرون على عناصر الحكاية الشعبية التي يمكن العثور عليها في قصة فيديكا. ومن المثير للاهتمام إذن أن عنوان تولستوي يعكس نمط الحكاية الروسية التقليدية كما تم تحليلها في دراسة فلاديمير بروب الشهيرة، مورفولوجيا الحكاية الشعبية (1968). يشير العنوان ضمنًا إلى أنه ليس جوردي، الجندي، بطل المهمة، إنما مَن يجب أن يُنظر إليه على أنه بطل الرواية في الحكاية، كما يوحي مخطط تولستوي للحبكة هي زوجته ماتريونا، والدة الراوي التي بقيت في الخلف تنتظر في ترقب ويأس. من خلال تسمية القصة بحياة زوجة جندي

لفت تولستوي الانتباه إلى الطابع الخاص لحكاية فيديكا. فيديكا، القاص الذي يتقمص دور الراوي، يشارك وجهة نظر الأم. إنها حكاية شعبية تُروى من وجهة نظر أولئك الذين يعانون بدلاً من أولئك الذين يتصرفون.

هذه هي المرة الأولى من عدة مناسبات، عندما يعالج تولستوي قصة فيديكا، يستحضر إلى الأذهان مقالًا مشهورًا آخر عن السرد، وهو مقال والتر بنجامين "الرواة"، الذي نُشر في الأصل عام 1934

(1968: 83-109).  إن مقال بنيامين انعكاس لقصص نيكولاي ليسكوف، معاصر تولستوي. يقدم بنيامين ليسكوف باعتباره راويًا تقليديًا ويحتفي بالحكاية التقليدية باعتبارها شكلا فنيًا لا يضاهى، ولكنه يحتضر. في بداية المقال، يميز بين نوعين من رواة القصص ’ يقول المثل الألماني: "عندما يذهب شخص ما في رحلة، يكون لديه شيء ليتحدث عنه"، ويتخيل الناس أن الراوي هو شخص جاء من بعيد. لكنهم لا يقلون استمتاعًا بالاستماع إلى الرجل الذي بقي في المنزل يعيش حياة كريمة، ويعرف أحدث الحكايات والتقاليد‘ (1968: 84). من المؤكد أن فيديكا ينتمي إلى هذه المجموعة الثانية. قصته تزخر بالتقاليد العائلية واللون المحلي. إنها ليست حكاية مسافر أو مغامر، بل حكاية مشاهد ومراقب، طفل يراقب عن كثب ويتذكر بوضوح الأحداث التي ما زالت أهميتها غامضة جزئيًا.

يقسم تولستوي القصة إلى أربعة مشاهد أو فصول ويفحص كل منها على حدة. في المشهد الافتتاحي، التفاصيل العرضية هي التي تلفت انتباهه، لحظات البصيرة التي تبرز ضد الأوصاف الرسمية للشخصية والمكان:

ذا كان هناك نوع من الابتذال في المقاربة في الافتتاحية، وفي وصف الشخصيات والمسكن، فأنا وحدي المسؤول عن ذلك. لو تركته بمفرده فأنا متأكد من أنه كان سيقدم الشيء نفسه في العمل وبشكل غير ظاهر ، بفن أكبر، دون أسلوب الأوصاف المرتبة منطقيًا المقبول بيننا والذي أصبح مستحيلاً: أولاً وصف الشخصيات الدرامية وحتى سيرهم الذاتية، ثم وصف للمكان والبيئة وعندها فقط يبدأ الحدث. ومن الغريب أن نربط كل هذه الأوصاف، التي تغطي أحيانًا عشرات الصفحات، لا تفعل شيئًا لتعريف القارئ بالشخصيات بقدر ما تعطي لمسة فنية يتم إلقاؤها بلا مبالاة في نقطة عندما يكون الحدث قد بدأ بالفعل، بين الشخصيات التي لم يتم وصفها على الإطلاق.

وهكذا في الفصل الأول تظهر عبارة جوردي الوحيدة "هذا بالضبط ما أحتاجه" عندما يهز كتفيه ويخضع لمصيره كجندي ويطلب فقط من المجتمع عدم التخلي عن ابنه. هذه العبارة تقدّمُ المزيد لتعريف القُرّاء بالشخصية أكثر من الوصف الذي تكرر عدة مرات والذي اختلقته أنا، عن لباسه وشخصه وعاداته في الذهاب إلى الحانة (1982: 234).

المشهد الافتتاحي مليء بلحظات كهذه. خذ على سبيل المثال الفقرة الأولى. وتتركز قوتها الاستفزازية في ثلاث جمل فقط، كل واحدة منها هي في حد ذاتها مثال على البراعة الفنية غير المزعجة التي أثارت إعجاب تولستوي بشدة. المزاج السائد في السرد التالي تقترحه مقارنة بسيطة: "أتذكر، كما لو كنت في حلم، كيف أحبتني جدتي أكثر مما فعلت والدتي." إن النوعية الخاصة لحب الجدة يتم التقاطها في تفاصيل الذاكرة: ’ عندما بدأت بالهرب إلى أي مكان كانت تقول "احذر، لا تؤذِ نفسك، فيديكا"‘. صورة واحدة تكفي لتحيي ضعف الأم في مواجهة عنف زوجها: ’ كانت تبكي قليلًا ولا تقول شيئًا‘.

ثم تأتي نهاية المشهد مليئة بالهواجس: "وهكذا بدأنا حياة فقيرة، أسوأ بثلاث مرات مما كنا عليه عندما كان والدي معنا - لا شيء للأكل، باعوا الأغنام لشراء الخبز وباعوا خروفي الصغير الجميل. وأخيراً، كل ما بقي لدينا هو الفرس العرجاء.' يقدم المشهدان التاليان صورة حية لعائلة في حالة تدهور. إن رواية فيدكا عن ولادة وتعميد أخ الراوي الصغير تحمل نذر الشؤم.  إحدى السمات الأكثر لفتًا للانتباه في سرده هي الطريقة التي يستحضر بها العالم الخيالي لطفل صغير، حيث تُدرَك الأحداث بوضوح مذهل، على الرغم من أن أهميتها الثقافية لا تُفهم إلا بشكل "غامض". وهو الوصف المناسب ربما لتعميد الطفل، وكذلك حفل زفاف الأخت لاحقًا، والدراما غير العادية فيه: “جلسنا جميعًا في أماكننا؛ وصل الكاهن وقرأ من كتاب. تم تسليم الصبي إليه وجُهِّز حوض من الماء. وفجأة، غمر الصبي في الماء. لا عجب أن يشعر الأخ الأكبر اليقظ بالذعر. ومع ذلك، في نهاية الحفل، ما زال لا يعرف اسم أخيه. يبدو الأمر كما لو أن المغزى من التعميد قد ضاع بالنسبة له. ولكن ما هو بالضبط الهدف من هذا التعميد؟ وكما يروي فيديكا، يبدو الأمر أشبه بذريعة للموت أكثر من كونه احتفالًا بحياة جديدة. بمجرد أن تجيب الأم على سؤال ابنها: "يا أمي، ما اسمه؟" تجيب بلامبالاة "مثل اسمك" حتى تنهي التعميد بالالتماس القاسي، "يا رب، متى سيموت هذا الشقي؟”.

إن صدمة موت الطفل، التي جاءت فجأة، هي الأعظم بسبب التقشف في سردها، وهذا التقشف هو الذي يجذب تولستوي بشكل خاص:

اقترحت أن يكون للصبي ساقان نحيلتان، واقترحت التفاصيل العاطفية حول صنع نيفد العجوز للتابوت الصغير؛ لكن شكاوى الأم التي تم التعبير عنها في عبارة واحدة، "يا رب، متى سيموت هذا الطفل"، وضعت أمام القارئ جوهر الموقف بالكامل؛ ولاحقاً في الليلة التي استيقظ فيها الأخ الأكبر على دموع أمه، وإجابتها على سؤال الجدة عما حدث لها بكلمات بسيطة "ابني مات". وقامت الجدة وأشعلت المصباح وغسلت جسد الصغير – كان ذلك كله من تعبير بفيديكا الخاص: متماسك جدًا وبسيط جدًا وقوي جدًا ولا يمكن تجاهل كلمة واحدة أو تغييرها أو إضافتها. هناك فقط خمسة أسطر في مجملها، ليس إلاّ، وفي تلك الأسطر الخمسة تُرْسَم للقارئ الصورة الكاملة لتلك الليلة الحزينة، وتنعكس الصورة في مخيلة طفل في السادسة أو السابعة من عمره (1982:234).

مشهد الزفاف يجلب تخفيفًا مؤقتًا للمزاج. ويشير تولستوي مرة أخرى إلى دقة تفاصيله وقوتها:

يبدو الوصف لحفل الزفاف جيداً بشكل غير عادي. هناك تفاصيل لا يمكننا إلاّ أن نشعر بالحيرة معها.  وعندما نتذكر أن هذا كتبه صبي يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، نسأل أنفسنا: "هل يمكن حقًا أن يكون هذا عن طريق الصدفة؟" سطور من هذا الوصف المكثف والقوي لصبي يبلغ من العمر سبع سنوات، ذي عينين صغيرتين ذكيتين ومنتبهتين، ليس أطول من الطاولة، لا يعيره أحد أي اهتمام، ولكنه يتذكر ويلاحظ كل شيء. فعندما أراد قطعة خبز، على سبيل المثال، قال إنه جعل أمه تنحني. وهذا لا يقال صدفة، بل يقال لأنه يستطيع أن يتذكر كيف كانت علاقته بأمه في تلك الفترة من نموه خجولة أمام الآخرين ومقربة عندما يكونان بمفردهما (1982: 236).

يشكل حفل الزفاف فترة فاصلة في سوء حظ الأسرة، وهو مساحة مفعمة بالأمل تجسدها الرواية، كما يقرأها تولستوي، في شخصية الأخت:

بالعودة إلى الفصل الأول، وصف [فيديكا] علاقة الأخت بالعائلة بضربة واحدة: "الشخص الوحيد الذي عمل كان أختي ولم يكن ذلك من أجل العائلة، بل لحسابها الخاص - لقد كانت تشتري لنفسها ملابس جميلة استعدادً للزواج. وهذه الضربة الواحدة تكفي لإعطاء صورة كاملة للفتاة، التي لا تستطيع المشاركة، بل ولا تشارك، في أفراح الأسرة أو أحزانها. لديها مصلحتها المشروعة، وهدفها الوحيد الذي وضعته العناية الإلهية أمامها، وهو زواجها المستقبلي وعائلتها (1982: 235).

يتساءل تولستوي كيف يمكن لزملائه الكُتّاب تفسير هذه الضربة الواحدة:

والآن صديقنا العزيز الكاتب، وخاصة إذا كان من النوع الذي يرغب في تنوير عامة الناس من خلال تقديم أمثلة للأخلاق تستحق الاقتداء بها، فمن المؤكد أنه كان سيثير مسألة مشاركة الأخت في المصاعب العامة والأحزان العائلية. إمّا أن يجعلها مثالًا مخزيًا للامبالاة أو نموذجًا للحب والتضحية بالنفس، وقد صار لدينا فكرة عنها الآن، ولكن ليس كشخصية حية قابلة للتطور (1982: 235).

بالنسبة لتولستوي، فإن استقلال الأخت هو بالضبط ما مكّن من جعلها تخدم في القصة

في تلك الفترة الحزينة من الوحدة لزوجة الجندي كممثلة للفرح والشباب والأمل. يمكن القول إنه ليس دون مغزى أن يقول بأن الفرح الوحيد الذي كان لديهم هو عندما زوجوا أختهم؛ ليس دون مغزى أن يصف احتفالات الزفاف بمثل هذه التفاصيل المحببة؛ وليس عبثًا أن يجعل الأم تقول بعد الزفاف: "الآن هلكنا وانتهينا" (1982:236)..

بالضبط، كما أنذر التعميد بوفاة الرضيع، فإن الزفاف الآن ينبئ بوفاة الجدة. بهذه الضربة الأخيرة للعائلة يصل اليأس إلى أدنى مستوياته. مرة أخرى يصوّر فيديكا لحظة اليأس في صورة واحدة، شحوب الأم، صورة تخيّم على سنوات الفقر التي تلت: "عندما دُفنت جدتي، عادت أمي ورأيت أنها كانت شاحبة للغاية. بقينا نحن الاثنان فقط، أنا وأمي، وعشنا لفترة طويلة في فقر".

"والآن وقد مرت ست سنوات." بهذه الكلمات تقفز القصة أماماً إلى نهايتها، سلسلة غير عادية من اللوحات التي تمثل عودة البطل، والاعتراف به، وتوبته وحظه الجيد، والحياة الجديدة والسعيدة للعائلة. دهشة تولستوي مفهومة تماما. وهو يعترف قائلاً: ’ لم أقابل شيئًا مثل هذه الصفحات في الأدب الروسي‘(1982: 237).

إن حل فيديكا للحكاية هو في حقاً بمثابة جولة في قوة خيال الشباب، وهو مثال لا يقارن في الجودة التي يميزها والتر بنيامين في كل قصة جديرة بالملاحظة: "ذلك الدمج غير المتكلّف الذي لا يترك للتحليل النفسي مجالاً" (1968: 91). يقارن بنيامين رواية القصص بالإخبار:

كل صباح يحمل لنا أخبارًا عن العالم، [يكتب]، ومع ذلك فنحن لدينا فقر في القصص الجديرة بالملاحظة. وبعود هذا إلى أن أي حدث يأتينا دون أن يكون متلاافقاً مع الشرح. . . في الواقع، إن الحفاظ على القصة خالية من التفسير أثناء إعادة إنتاجها هو نصف فن رواية القصص. . . إن الأشياء استثنائية،الأشياء الرائعة، مترابطة مع أكبر قدر من الدقة، لكن دون أن يكون الترابط النفسي للأحداث مفروضًا على القارئ. ويترك له تفسير الأشياء بالطريقة التي يفهمها، وبالتالي يحقق السرد سعة تفتقر إليها المعلومات (1968: 89). هذا هو المدى الذي يدركه تولستوي في سرد فيديكا، حتى في تفسير الأشياء بالطريقة التي يفهمهافإنه يميل إلى فرض تفسيره الخاص على القارئ للارتباط النفسي للأحداث التي يرويها فيديكا. ويصر على أنه "في مجمل هذه المواجهة، لا يوجد أي تلميح إلى أن هذا مؤثر؛ إنه يروي فقط ما حدث، ولكن من بين كل ما حدث فإنه لا يورد إلا ما هو ضروري للقارئ كي يفهم موقف جميع الشخصيات" (1982: 237).

يشير تولستوي أولا إلى دقة مشهد الاعتراف والذي أخّر لحظة الاعتراف حتى وفاة الجدة. ’ ثلاث عبارات فقط هي كل ما قاله الجندي في منزله. بدايةً، كان ما زال يستجمع شجاعته وقال: "كيف الحال؟" وعندما بدأ ينسى الدور الذي كان قد تحمّله قال: "أهذه كل العائلة التي لديكم؟"‘، ثم خرج كل شيء بكلمات "أين أمي إذن؟". تم تلخيص الكثير من السرد وتوحيده هنا: حب الجدة لحفيدها، ويأسها من رحيل ابنها، وكلماتها المحتضرة لزوجة ابنها: "إذا جاء -إن شاء الله - فلا تتشاجري معه"‘.

ويتبع الاعتراف دليل على التوبة يتم تضمينه في لحظة أخرى. يكتب تولستوي: "لقد تاب الأب". كم من الجمل الكاذبة والخرقاء كنا سنجمعها في هذه الفرصة! لكن فيديكا روى ببساطة كيف أحضرت أخته الفودكا ولم يبدأ في شربها. . . وفكّر، إذا لم يبدأ بالشرب في لحظة كهذه، فقد تاب حقًا” (1982: 238)

تأتي المزيد من الأدلة على صلاح الأب من الكشف العرضي بأن جوردي قد تعلم القراءة. ’ عندما تناولنا العشاء قبّلت أختي أبي مرة أخرى وخرجت من المنزل. ثم بدأ أبي بالتنقيب في حقيبته بينما كنا نراقبه. رأت أمي كتاباً داخلها، وقالت: ’ لقد تعلمتَ القراءة، أليس كذلك؟ ‘ قال الأب: ’ نعم، لقد فعلت‘.

ومع ذلك، لم يكن الكتاب هو ما كان يبحث عنه جوردي، بل المال. ” ثم أخرج أبي صرة كبيرة وأعطاها لأمي. تقول أمي ’ ما هذا؟ ‘ ’مال،‘ يقول أبي. غمرت السعادة الأم وأسرعت لتضع المال في مكان آمن. ثم عادت وقالت: ’ من أين حصلت على هذا المال؟!‘، قال أبي ’ كنت ضابطًا وكان لدي مال الجيش. أعطيته للجنود وتبقى القليل فأخذته‘. يسخر تولستوي بشدة من هذه الثروة التي تم الحصول عليها بهذه الطريقة المشكوك فيها.

ويشير إلى أن’ بعض قراء هذه القصة لاحظوا أن هذه التفاصيل غير أخلاقية وأن فكرة الخزنة باعتبارها بقرة حلوب يجب القضاء عليها وعدم تأكيدها في أذهان عامة الناس‘ لكنني من جهتي أقدر هذه اللمسة بشكل خاص، ناهيك عن الحقيقة الفنية‘(1982: 238). كتب ما يقارب الصفحتين لإثبات أن عدم الأمانة الظاهرة هو فضيلة حقيقية. لكن القصة نفسها مفتوحة على كل الاحتمالات. إنه لا يقدم أي حكم، ولكنه يقدم الحقيقة ببساطة.

ولأغراض السرد، فإن الهدف هو إيجاد طريقة لربط عودة البطل بالحظ السعيد للعائلة. إن الواقعية القوية والغموض الأخلاقي للمَخرج الذي قدمه فيديكا يضعه ضمن أرقى تقاليد الحكاية الشعبية. هذه هي الحقيقة الفنية التي أدركها تولستوي أخيرًا، على الرغم من كل قلقه بشأن مدى أخلاقية تصرفات الجندي:

ما يريده المؤلف هو أن يجعل بطله سعيدًا؛ كان من المفترض أن تكون عودته إلى العائلة كافية للسعادة، ولكن كان من الضروري القضاء على الفقر الذي كان يثقل كاهل الأسرة لسنوات عديدة: من أين يمكنه الحصول على الثروة؟ من الحساب العام غير الشخصي. إذا كان ينبغي الحصول على الغنى فيجب أخذها من شخص ما – ولم تكن هناك طريقة أكثر ملاءمة ومعقولة للعثور عليها. (1982: 240)

تذهل تولستوي تفاصيل معينة في رواية الحظ السعيد للجندي. إنها نقطة نحوية يصعب تقدير قيمتها من خلال الترجمة، ولكنها من النوع الذي سيتكرر مرات عديدة في الفصول التالية من هذا الكتاب:

في نفس المشهد الذي يتم فيه الإعلان عن المال، [يوضح]، هناك تفاصيل صغيرة، كلمة واحدة، والتي يبدو أنها تذهلني من جديد في كل مرة أقرأها. إنها تضيء مجمل الصورة وترسم كل الشخصيات وعلاقاتها، وما هي إلا كلمة واحدة استخدمت بشكل غير صحيح، خاطئة نحويا – إنها كلمة "أسرعت". لا بد أن يقول مدرس النحو أن هذا غير صحيح. ""أسرعت"" تقتضي استمرارًا - أسرعت إلى ماذا؟ المعلم ملزم بالسؤال. ولكن هنا يقرأ ببساطة: "أخذت أمي المال وأسرعت، لتضعه في مكان آمن" - وهذا رائع. أتمنى أن أقول كلمة كهذه، وأتمنى أن يقول المعلمون الذين يقدمون دروسًا في اللغة جملة كهذه أو يكتبونها (1982: 240).

وكما سنرى، فإن الاستخدام الإبداعي للأخطاء النحوية هو سمة مهمة في أسلوب السرد لدى الأطفال، حيث ينشط نثرهم ويوسع نطاقهم السردي ويؤكد نواياهم الأدبية. إن إدراك تولستوي لقيمة بناء جملة فيديكا الخاطئ هو من بين أكثر اكتشافاته أصالة وهو يتأمل قصص تلاميذه.

يؤدي الكشف عن الثروة إلى وصول قصة فيديكا إلى نهايتها الطبيعية، لكن فيديكا يضيف خاتمة ممتدة. يتعامل تولستوي مع هذه النهاية باعتبارها طريقة فيديكا للإشارة إلى المستقبل السعيد للعائلة: ’ قد يعتقد المرء أن كل شيء قد انتهى؛ لقد عاد الأب، ولم يعودوا فقراء بعد. لكن فيديكا لم يكن راضيًا عن هذا (من الواضح أن هؤلاء الأشخاص الخياليين قد رسخوا أنفسهم بشكل واضح جدًا في مخيلته)؛ كان ما زال يريد أن يتخيل صورة لكيفية تغير أسلوب حياتهم‘ (1982:241). المشهدان التاليان هما رسم فيديكا للحياة الجديدة. هناك جانب آخر وربما أكثر أهمية في هذه المشاهد يتجاهله تولستوي. من اللافت للنظر مدى دقة خاتمة فييدكا في تلخيص بدايات القصة وتحويلها. بالفعل، في رواية إصلاح الجندي، نجد صدى تعليق الجدة الساخر لكبار السن عندما تم إرسال جوردي ليكون جنديًا: “هذا ما يريده تمامًا، أن يترك عائلته ومنزله ولا يفكر في أي شيء". تتمثل السخرية في أنه من خلال ترك منزله وعائلته بالتحديد قام جوردي بتوبته ووجد ثروته. وبطريقة مماثلة، فإن ادعاء الأب المرح بضرب زوجته لأنها أزعجت ابنهما يستدعي حياتهما السابقة معًا. ثم صار الضرب حقيقيًا للغاية وكانت الأم "تبكي قليلًا من الدموع ولا تقول شيئًا"، بينما كان الراوي "يذهب مسرعًا مباشرة إلى جدته طالباً الحماية". الآن أصبح كل شيء حقيقيًا: "ادعت أمي أنها كانت تبكي. وجلست على ركبة أبي وكنت سعيدا'. لكن التلخيص الأكثر أهمية على الإطلاق يأتي مع الجملة الأخيرة من القصة: "قال الأب: ’نعم، ليس هناك شك في ذلك، إنه تمثيل من الدرجة الأولى"‘. في المشهد الافتتاحي كان الراوي قد لفت الانتباه إلى ضعف منزل العائلة: ’لأنه على ما أتذكر، كان كوخنا في حالة متداعية؛ "لقد قمنا برفعه بالدعائم." ومن الجدير بالذكر أن الهيكل الجديد، الذي تم شراؤه من مسؤول غابات حكومي، "محتال حقيقي" والذي وظف نفسه كمسؤول للغابات الحكومية، يرمز إلى القوة الجديدة للعائلة، والتي اقترحها فيديكا سابقًا. إذ قام والده بتقطيع الحطب في صباح اليوم التالي لعودته. إن الانتهاء من الهيكل الجديد بحد ذاته هو آخر المفاجآت العديدة لهذه الحكاية المفردة.

ولكن ما الذي نريد قوله بكل هذا؟" يتساءل تولستوي في نهاية مناقشته لقصة فيديكا:

ما هي أهمية هذه القصة، التي كتبها صبي، ربما استثنائي، في سياق تربوي؟ سيقول لنا الناس: "ربما ساعدته، أيها المعلم، دون أن تلاحظ ذلك، في تأليف هذه القصة وغيرها، وسيكون من الصعب جدًا العثور على الحد الفاصل بين ما هو لك وما هو أصلي". يقولون لنا: على فرض أن القصة جيدة، فهذا ليس إلا نوعاً من أنواع الأدب. سيقولون لنا. "إن فيديكا والفتيان الآخرين الذين طبعت مؤلفاتهم هم استثناء محظوظ". سيقولون لنا: "أنت كاتب". لقد ساعدت التلاميذ دون أن تدرك ذلك بطرق لا يمكن وصفها كقاعدة للمعلمين الآخرين الذين ليسوا كتابًا. سيقولون لنا، ’ من المستحيل استخلاص أي قاعدة عامة أو نظرية من كل هذا.‘ إنها ظاهرة تثير بعض الاهتمام وليس أكثر (1982: 243).

هناك ألفة مقلقة حول هذه الاعتراضات. لا يعني ذلك أنها بلا أساس بقدر ما أنها تخطئ الهدف، كما لو أننا لا نستطيع أن ننسب الفضل إلى إنجازات الأطفال. كان رد تولستوي هو وضع الخطوط العريضة لنظرية جذرية للنمو المعرفي، مستمدة من ملاحظته ومضمنة في أوصافه وتفسيراته. وقد أقنع الإسراف في عرضه معظم المعلقين برفض النظرية باعتبارها تمثل معتقداً، وليس كما استجاب النقاد لخاتمة الحرب والسلام. هنا، على سبيل المثال، كيف يلخص إشعياء برلين، في مناقشة مشهورة لفكر تولستوي التعليمي، مقالاته:

 

لا تزال رائعة، على الأقل لأنها تحتوي على بعض من أفضل الأوصاف لحياة القرية وخاصة الأطفال، الكوميدية والغنائية على حد سواء، وحتى أي من تلك التي ألفها تولستوي. يتم نسيان هدفه التعليمي المهيمن بسهولة في الرؤية التي لا مثيل لها في النمط المتعرج والمتقاطع لأفكار ومشاعرالأطفال، والصوابية الرائعة والخيال الذي يتم من خلاله وصف حديثهم وسلوكهم، والطبيعة المادية حولهم. وجنبًا إلى جنب مع هذه الرؤية المباشرة للتجربة الإنسانية، توجد عقائدية واضحة وثابتة لواحد من العقلانيين العقائديين المتعصبين في القرن الثامن عشر - وهي عقائد لم تندمج مع الحياة التي يصفها، ولكنها فرضت عليها، كنوافذ ذات أنماط متماثلة صارمة مفروضه عليها بدقة لا علاقة لها بالعالم الذي تنفتح عليه، ومع ذلك تحقق معه نوعًا من الوحدة الفنية والفكرية الوهمية، بسبب الحيوية اللامحدودة والعبقرية البناءة للكتابة نفسها (1978: 246).

لكن العلاقة بين النظرية والوصف أقرب مما يعترف به "برلين". لقد كشفت ملاحظة تولستوي التجريبية، بكل تفاصيلها التي لا تضاهى، عن براعة فنية واعية غير متوقعة ولا يمكن توقعها في القصص التي ألفها تلاميذه. إن القوة المٌقْنِعَة لوصفه تجعل من المستحيل تجاهل النتائج التي توصل إليها. إذن، ماذا تعني القصص بالنسبة للطريقة التي نفكر بها في تفكير الأطفال؟

إجابة تولستوي واضحة. ويخلص إلى أن "غريزة الحقيقة والجمال والخير مستقلة عن مستوى التطور" (1982: 244). أو بعبارة أخرى، الإبداع هو أحد ثوابت التطور. نحن نميل إلى التفكير في الإبداع باعتباره إنجازًا لمرحلة البلوغ، وهو المنتج النهائي لعملية طويلة من الاستقراء. في هذه الحالة، لا يمكننا أن نستفيد كثيرًا من نجاح فييدكا أو سيومكا. ومن هنا يأتي إغراء التعامل مع الأمر باعتباره حادثًا سعيدًا أو انعكاسًا لإبداع المعلم أو نتاج أمنياتٍ يتم تشجيعها من خلال قراءة الكثير من قصص الأطفال. وطالما أن هذه هي الطريقة التي نفكر بها في الإبداع، فمن المرجح، كما يراها تولستوي، "أن نعزز التطور لذاته لا محاولة جعله منسجماً مع أي أهواء أو أفكار أخرى” (1982: 244). نحن نتطلع إلى الإحساس الذي سيكوّنه الأطفال في المستقبل كبالغين ولا ننتبه إلى أهمية ما يجب أن يقولوه هنا والآن. التقنيات والروتين ونظم المعرفة والمهارات الرسمية تصبح غايةً في حد ذاتها، بغض النظر عن الاستخدامات التي تُستخدم فيها. المتعة النهائية مؤجلة دائماً:

نحن واثقون تمامًا من أنفسنا، [يصر تولستوي]، مكرسون في هذا الحلم كطريقة للمثال الزائف للكمال، وعديمو الصبر إزاء العيوب ومقتنعون تمامًا بقدرتنا على تصحيحها، قدرنا قليلة جداً على أن نفهم ونقدر الجمال البدائي للطفل، لدرجة أننا نسارع بأسرع ما يمكن إلى المبالغة، وتصحيح تلك العيوب التي تقفز إلى أعيننا، ونصحح، وندرب الطفل. . . يطور الناس الطفل أكثر فأكثر، ويبتعدون أكثر فأكثر عن الصورة البدائية السابقة التي تم تدميرها، ويصبح تحقيق الصورة المتخيلة لكمال البالغين مستحيلًا أكثر فأكثر

(1982: 245).

يكمن الخطأ في أننا “نرى المثل الأعلى أمامنا بينما يكون خلفنا” (1982: 244). يجب علينا أن نفكر في الغرائز التي خلف الحقيقة والجمال والخير – أي الرغبة في النظام والقياس والشكل في عوالم الفعل والأخلاق والجماليات – ليس كهدف، بل كأمر مسلم به، إمكانات ولدت معنا ونمارسها منذ أيامنا الأولى في ضوء ما نعرفه، مهما كانت معرفتنا ضئيلة. بالنسبة لتولستوي هذا هو معنى "الافتراض العظيم" لروسو، أي أن "الإنسان يولد مثاليًا". . . يمثل الإنسان عند ولادته نموذج الانسجام والحقيقة والجمال والخير. لكن كل ساعة من الحياة، كل دقيقة من الزمن، تزيد من مساحات وحجم وزمن تلك العلاقات التي كانت في انسجامٍ تامٍ لحظة ولادته، وكل خطوة وكل ساعة تهدد بتدمير هذا الانسجام‘(1982: 245).من وجهة نظر الطفل، التعليم هو صراع متواصل للحفاظ على الإبداع في مواجهة الخبرة. الخبرة هي وعد وتهديد في آن واحد. فمن ناحية، تكون على شكل المعرفة اليومية أو المعرفة الأكثر رسمية المكتسبة في المدرسة، فإنها تزود الطفل النامي "بمواد يكمل بها نفسه بطريقة متناغمة ومتعددة الجوانب" (1982: 246). ومن ناحية أخرى، فإنها تتحدى باستمرار إبداع الطفل، مما يجبر الطفل على إعادة تشكيل الفكر والعمل في محاولة لاستعادة انسجام نقي والذي لا يمكن تأمينه أبدًا. هكذا يصوغ تولستوي جدلية التطور. وتبدو له تداعياتها التعليمية شفافة. ينبغي الحكم على قيمة أي شكل من أشكال التربية من خلال قدرته على الحفاظ على الإبداع في استخدام المعرفة وتعزيزه، ليس بقدرته على الإضافة إلى مجموع المعرفة، بل بالحفاظ على الإبداع في استخدام المعرفة وتعزيز ذلك. لقد كان كوليردج، وليس روسو،  من صاغ هدف تولستوي التربوي بشكل أكثر أناقة واستفزازًا، في مقال نشره في مجلته الصديق العام 1818، وهو مقال يكاد يكون من المؤكد أن تولستوي لم يقرأه أبدًا: لا للمساعدة في التخزين السلبي للعقل بمختلف أنواع المعرفة الأكثر طلبًا، كما لو كانت النفس البشرية مجرد مستودع أو بيت لأنواع الطعام، ولكن أن تضعها في ظروف وعلاقاتٍ، لتثير تدريجيًا تلك القوة الجنينية التي لا تتوق إلى المعرفة فحسب، بل إلى ما يمكن أن تذوّته داخلها، ما يمكن أن تستحسنه وتعيد إنتاجه كمنتجات خاصة بها(كولريدج 1969: 472).

يمكن قراءة مقال تولستوي باعتباره وصفًا فريدًا لـ "علاقات الظروف" لكوليريدج وشرحاً لا يقاوم لـ "القوة الجنينية" لتلاميذه.

من سيتعلم الكتابة ممن؟ هل ينبغي لأطفال الفلاحين أن يتعلموا الكتابة منا أم يجب أن نتعلم الكتابة منهم؟ ‘ كانت واحدة من آخر مقالات تولستوي حول التعليم. على الرغم من أنه عاد إلى الموضوع عند إكمال الحرب والسلام، بنشر كتاب ألف باء جيم، وهو كتابه التمهيدي والابتدائي، وانخراطه في الجدال التربوي، لا سيما فيما يتعلق بتدريس القراءة، إلا أنه لم يستعدْ أبدًا الإثارة التي كانت في عمله السابق. وفي السنوات اللاحقة تخلى عن اهتمامه السابق بالتربية والتعليم ووصفه بأنه يستهوي الذات وغير مهم. لم يتم إيلاء سوى القليل من الاهتمام لفكره التربوي خلال القرن ونصف القرن منذ نشر مقالاته، وهي الفترة التي تتزامن مع تاريخ التعليم الشعبي في جميع أنحاء أوروبا. تم نسيان فيديكا وسيومكا، وعُرفت رواية تولستوي لقصصهما بسبب عنوانها أكثر من محتواها. يبدو الأمر كما لو أن تولستوي، بطرح سؤاله البلاغي السيئ السمعة، كان يعلن عن مشروع ثوري لم يكن من الممكن تنفيذه أبدًا: تفحّص مصدر الفكر الإبداعي للأطفال وتعقيده في بعده السردي واكتشاف أفضل السبل لتنميته. وتسعى الفصول المتبقية من هذا الكتاب إلى إعادة تنشيط مشروع تولستوي. ومن خلال سلسلة من الدراسات حول "الإبداع الواعي" في لحظات مختلفة من النمو من الطفولة المبكرة إلى المراهقة، أهدف إلى الوصول إلى فهم جديد لفهم السرد لدى الأطفال. ماذا يمكننا أن نتعلم من قصص الأطفال حول الأطفال كرواة قصص؟ السؤال أقل دراماتيكية من سؤال تولستوي، لكنه، كما سنرى، يثير القضايا نفسها واحدة تلو الأخرى.

مراجع وهوامش


REFERENCES 

Armstrong, M. (1980) Closely Observed Children. London: Writers and Readers Cooperative Society.

Bakhurst, D. and Shanker, S. G. (eds) (2001) Jerome Bruner: Language, Culture, Self.

London: Sage Publications.

Benjamin, W. (1968) Illuminations. New York: Schocken Books.

Benjamin, W. (1999a) Selected Writings Vol. 2. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Benjamin, W. (1999b) The Arcades Project. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Berlin, I. (1978) Russian Thinkers. Harmondsworth: Penguin.

Blake, W. (1966) Complete Writings. Oxford: Oxford University Press. Bronte¨, C. (1985) Jane Eyre. London: Penguin Classics.

Bruner, J. (1996) The Culture of Education. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Calvino, I. (1980) Italian Folk Tales. Orlando, FL: Harcourt Brace & Co.

Calvino, I. (1988) Six Memos for the Next Millennium. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Carini, P. (2001) Starting Strong: A Different Look at Children, Schools and Standards.

New York: Teachers’ College Press.

Carrol, L. (1927) Alice’s Adventures in Wonderland. London: Macmillan.  Carter, A. (1992) The Second Virago Book of Fairy Tales. London: Virago Press. Cazden, C. B. (2001) Classroom Discourse. Portsmouth, NH: Heinemann.

Christian, R. F. (1978) Tolstoy’s Letters. London: The Athlone Press.

Coleridge, S. T. (1969) The Collected Works of Samuel Taylor Coleridge. London: Routledge & Kegan Paul.

Eikhenbaum, B. (1982) Tolstoy in the Sixties. Ann Arbor, MI: Ardis.

Ginzburg, C. (1990) Ecstasies: Deciphering the Witches’ Sabbath. London: Hutchinson.

Goethe, J. W. von (1970) Theory of Colours. Cambridge, MA: The MIT Press. Hyde, L. (1998) Trickster Makes This World. New York: North Point Press.

Jacobs, J. (1968) English Fairy Tales. London: The Bodley Head.

  

Kearney, R. (2002) On Stories. London: Routledge.

Keynes, G. (1976) William Blake’s Laocoon: A Last Testament. London: The Trianon Press.

Lomas Garza, C. (1991) A Piece of My Heart: The Art of Carmen Lomas Garza. New York: The New Press.

Maude, A. (1929) The Life of Tolstoy. Oxford: Oxford University Press.   McDowell, J. (1994) Mind and World. Cambridge, MA: Harvard University Press. Oakeshott, M. (1962) Rationalism in Politics and Other Essays. London: Methuen. Paley, V. G. (1981) Wally’s Stories. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Paley, V. G. (1990) The Boy Who Would Be a Helicopter. Cambridge, MA: Harvard University Press.

Project Zero and Reggio Children (2001) Making Learning Visible: Children as Individual and Group Learners. Reggio Emilia: Reggio Children.

Propp, V. (1968) Morphology of the Folk Tale. Austin, TX: University of Texas Press. Ricoeur, P. (1984) Time and Narrative Vol. 1. Chicago: University of Chicago Press. Sontag, S. (1983) A Barthes Reader. New York: Hill & Wang.

Tolstoy, L. (1965) Stories for Children. Moscow: Progress Publishers. Tolstoy, L. (1982) Tolstoy on Education. London: The Athlone Press.

Vygotsky, L. S. (1968) Mind in Society. Cambridge, MA: Harvard University Press. Wittgenstein, L. (1953) Philosophical Investigations. Oxford: Basil Blackwell.

 

المرجع الدراسة كتاب:

CHILDREN WRITING STORIES

MICHAEL ARMSTRONG

Open University Press McGraw-Hill Education McGraw-Hill House Shoppenhangers Road Maidenhead

Copyright # Michael Armstrong 2006.

 

 



[1] نسبة إلى طائفة مسيحية في روسيا